لا شك أنّ دراسة أبعاد كورونا الإجتماعية والنفسية العميقة لم تبدأ بعد، وسوف تستغرق وقتاً طويلًا. لكن المريب في أمر هذا المرض انه يشبه فيروس الكمبيوتر الى درجة الى كبيرة، اذ يبدو كأنه فيروس ذكي وانتقائي، وهذا ربما ما دفع بالكثيرين في بداية ظهور المرض للقول بأنه سلاح بيولوجي مركب مخبرياً وموّجه ضد أعراقٍ بعينها، الأصفر تحديداً كونه ظهر في الصين، ومن ثمّ أطلق عليه الرئيس الاميركي اسم "الفيروس الصيني". أو ربما لاحقاً بعد سيطرة الصين عليه وانتشاره في الأميركيتين، أنه ربما يكون فيروساً صينيًا بالفعل وفقدوا السيطرة عليه. ولكن دراسة الأثر الاقتصادي الهائل الذي ألحقه بالصين تحديدًا وعزوف العالم عن شراء كل ما هو صيني، يطرح الكثير من علامات الاستفهام. بعد أن بدا التنين الصيني قد تجاوز كل الحدود ولا مجال لردعه وما بقي الا اللمسات الأخيرة قبل الإعلان الرسمي عن "الصين العظمى"... نظريات كثيرة لم يؤكد أيُّ مصدرٍ علمي محايد صدقيتها. بالعودة الى الآثار النفسية والإجتماعية فإنّ هذا الوباء يعمد كذلك الى توسيع حالة البرود والاستلاب التي بدأت تعرفها البشرية منذ ظهور الحياة الرقمية والهواتف الذكية، فهو يدفعنا أكثر باتجاه التباعد الإجتماعي.
كما أنّ مشاهدة الناس وهم يرتدون أقنعة الوجه في الحافلات والمدارس وأماكن العمل والمكاتب بات أمرًا مألوفًا. لكن الأخطر في هذا كله، هو التوجس من الآخر، مهما كان قريباً أو محبوباً لدينا. وخاصة علاقات الأجداد بالأحفاد وبالعكس أو حتى العلاقات داخل الأسرة الواحدة. كل هذه العوامل سوف تدفع عميقًا في وعي إنسان ما بعد كورونا لنفسه ولعلاقته مع الآخر والعالم والآلة. سوف نسير بقوة نحو المزيد من الإغتراب والإعتماد على الآلة ونحو ضمور في المشاعر الإنسانية الحميمة. ونحو المزيد من المراقبة الشاملة للانسان من قبل الأجهزة الرقمية والحكومات والشركات الخاصة. وبالتالي الحد من المكتسبات التاريخية للبشرية في الحرية والديموقراطية والحقوق والتأمينات والضمانات الإجتماعية. هذه عينة عن التداعيات غير المرئية والعميقة لهذا الوباء. وهذا ربما ما يفسر التزايد المضطرد لأعداد المتظاهرين في برلين ضد إجراءات كورونا، (قرابة الاربعين الفاً في آخر تظاهرة منذ عدة أيام)، وقد شهدت هذه التظاهرات منذ انطلاقتها مع بدء اجراءات كورونا، ردود فعل متباينة. فقد كانت الشرطة تفرقها بالقوة أحياناً أو لا تمنحها رخصة التظاهر كونها تخالف اجراءت عدم التجمع وضرورة التباعد... ناهيك عن عشرات المقالات التي تتحدث عن نظرية المؤامرة أو اولئك الذين لا يزالون يشككون بوجود هذا المرض من أصله، ويدللون على ذلك عدم مشاهدتهم أي مريض كورونا. أو الشعور المتزايد بأن تلاعباً كبيرا ً يكتنف الأعداد الحقيقية لمصابي هذا المرض وبالتالي أعداد الوفيات الدقيقة. كذلك الجشع التجاري والسياسي في استغلال اللقاح المنشود لهذا الوباء، والذي تتتظره البشرية على أحر من الجمر بعد أن تكبدت الأقتصادات العالمية الخسائر الهائلة وخلّفت ارقاماً خيالية من العاطلين عن العمل، الذين سُيقال ربما لأكثرهم لاحقاً: " ابقوا في المنازل وسوف نمنحكم ما يلزمكم من طعام والعاباً الكترونية لتبقوا احياء"، وهذا أقل كلفة وعبئاً على نظام الآلينة والرقميات والروباتات المقبلين عليه. إذ إنّ هذا الركود العظيم الذي تعيشه البشرية اليوم، ولم تشهد مثيلًا له ربما سوى في الكساد العالمي في مطلع القرن المنصرم. لكن اللافت أن أكثر المستفدين المباشرين من هذا العالم الجديد، هم شركات الطرود، كشركة أمازون عملاق البيع بالتجزئة عبر الإنترنت، التي سجلت ارباحا ً فلكية (88.9 مليار دولار من الإيرادات خلال الربع الثاني من 2020، بزيادة 40٪ عن نفس الفترة من العام السابق، وأعلى بكثير من توقعات المحللين (81.6 مليار دولار). في حين قضى صعود هذه الشركة الرقمية العالمية على ملايين الشركات الصغيرة، وقد وظفت أكثر من مئة ألف انسان في اقل من سنة، في مجال توصيل الطرود. وهي تدير كوسيط ذكي وسريع ورخيص كل العمليات التجارية على موقعها الذي يصل اليك حتى دون عناءٍ أو دعوة. هذا هو على ما يبدو شكل النظام الرقمي الجديد.