بمعزل عن الشعارات والمزايدات وسيل المهاترات على وسائل التواصل الاجتماعي، فإنّ ما جرى بالأمس يُعتبر خطوة مهمة جداً في طريق دخول لبنان مرحلة الاستقرار والنمو والأزدهار المنشود. ولطالما كان هذا مطلب كثير من اللبنانين والجنوبيين تحديداً، الذين عانوا ودفعوا الأثمان الكبيرة منذ عام 1948، ومسألة ترسيم الحدود البحرية لا تُعدُّ تطبيعاً كاملاً وشاملاً. وإنما هدنة طويلة على غرار هدنة 1949. تتيح للطرفين استغلال ثرواتهما الطبيعية المتداخلة في البحر.
ومّما لا شك فيه أنّ للبنان مصلحة وطنية واضحة ولا ريب في ذلك. خاصة في ظل الضائقة الإقتصادية التي يرزح تحت عبئها. لكن ليس أن يقدم هدية مجانية لأحد او أن يكون الثمن هو تأبيد منظومة الفساد نفسها على رقابنا ثلاثين عاماً جديدة وتقاسمها المسبق لهذه الثروة الطبيعة فيما بينها وهو ما يبدو أنه قد حصل بالفعل. وهنا يكمن دور الحراك وقوى التغيير الحية، في السعي للحوؤل دون حدوث هذا الأمر.
أمّا ما يدفع المرء للتساؤل في هذا السياق، هو لماذا الدخول في هذا الأمر من دون أن تكون الإستراتيجية الدفاعية قد اُقرّت وتبلورت بإجماع وطني. لما كان الشعور العام اليوم، بأنّ هذه "المنظومة الحاكمة " الفاسدة، قد سُقيت ودفعت الى هذه الترتيبات تحت الضغوط والتهديد وسيف العقوبات المسلط على رقاب هذه الطبقة الفاسدة.
لذا يأتي "إطار الاتفاق" المزمع هذا، في سياقٍ غير مؤاتٍ أبدًا للبنان وهو يرزح تحت ما يشبه الحصار الدولي. إضافة الى أزمة اقتصادية خانقة وسلطة فاسدة تواجهها "انتفاضة شعبية" تطالب بالتغيير الحقيقي والإصلاح. حيث قاد فساد “السلطة المتعاقبة " الى افلاس البلد وانكشافه وما ترافق ذلك من انفجاري المرفأ وعين قانا وحديث نتنياهو عما يشبه بنك أهداف في بيروت والضاحية وما سبقها من نتائج المحكمة الدولة.
كل هذا يشي بأننا أمام وضع أقرب ما يكون الى "اتفاق ترتيبات أمنية"، ما كان دائماً مرفوضاً، منه الى "اتفاق على معالم الحدود" يكون الموقف والظرف الداخلي في وضع ٍ أقوى ومحصنًا أكثر.
ربما لم يفت الأوان بعد لبت هذه العلاقة، بما يحمي لبنان ويحفظ نقاط القوة لديه، وأعني هنا بالتحديد سلاح "المقاومة"، عبر دمجه بالجيش، وفق صيغة ملائمة. ومعالجة القضايا العالقة ذات الصلة. فإن من شأن هكذا خطوات، فتح كوّة في جدارالإحتدام والكباش الداخلي وبالتالي دفع الباب نحو انفراج المشهد المتأزم برمته، مع ما يستدعيه هذا الامر من تمهيد اجتماعي واعلامي وسياسي لهكذا خطوة. ناهيك أن "إطار الإتفاق" هذا يتحدث عن تلازم المسارين البري والبحري، وبرعاية الراعي الأميركي.
ما يجعل الأمر يبدو وكأنه تنفيذ لرغبة أميركية وإسرائلية صافية. إذ يبدو أنهم يبتزون لبنان، وتحديداً "المنظومة الحاكمة"، بشكل فاضح من خلال هذه النقطة، بأنهم لن يسمحوا للبنان باستخراج ثرواته من البحر ما لم تضمن اسرائيل حدودها البرية كذلك، أو يتعهد لبنان بتلك الضمانات المجهولة الصياغة والتعابير لحد الآن. وهذا بلا أدنى شك مطلب اسرائيلي وإن كان القارئ اللبناني يحاول ان يستخرج منه نصراً تاريخيًا بأنه سيحاول الحصول على المناطق المتنازع عليها. وكذلك ضمان حدوده البرية من الإعتداءات الإسرائيلة المتواصلة براً وبحراً وجواً. وهذا ما كان يشملهم القرار 425، الذي لم نعد نسمع به، وانما فقط "تفاهم نيسان" والقرار 1701، وتواجد قوات "اليونيفيل" والخط الأزرق.
ولكن يبقى السؤال الجوهري والأهم، هل يعني هذا أنّ تسوية لبنان لحدوده البحرية يُعد تطبّيعاً مع "اسرائيل"!؟ وأنه بالتالي يكون قد تنصّل من دوره الأخلاقي والوطني والتاريخي في مساندة الشعب الفلسطيني ودعم قضيته؟! وأخيرًا هل انتهى الصراع العربي/الأسرائيلي؟!
بالطبع لا. ولكنها مرحلة من الصراع الذي لا نرى في الأفق البعيد له حلاً، الاً على طريقة جنوب افريقيا، بعد أن تعي الأكثرية العربية والأكثرية "الإسرائيلية" وتحديدا هذه الأخيرة، انه لا قدرة في هذا العصر على طمس التاريخ وخلق معالم ديموغرافية وسكانية جديدة. وأنه لا مفر في نهاية المطاف من قبول الواقع والإعتراف به وبحقيقة وحتمية التعايش في دولة ديموقراطية واحدة. حينها عندما تتخلى العنجهية الصهونية عن افكارها التطهيرية والعنصرية، سوف تكون البلاد العربية حاضنة تاريخية ليهود العالم كما كان الأمر طوال قرون، عندما كان اليهود يعيشون كمواطنين أصيلين في المغرب والعراق وإيران ومصر ولبنان وباقي أصقاع العالم، قبل أن تعمل الدعاية "اليهودية" العالمية على تهجيرهم وتجمعيهم في فلسطين. فيما كانت معاداة السامية تجتاح اوروبا التي انتهت بالهولوكوست الشهير. الى ذلك الحين سوف نظل نكتب ونضع اسم "اسرائيل" بين مزدوجتين وهلالين وأكثر، لأننا لن نقدم اعترافاً مجانياً بها، متجاوزين مأساة الشعب الفلسطيني وكل الجرائم الإسرائيلية المرتكبة في الأراضي الفلسطينية وفي لبنان التي لا بد لنا أن نطالب بتعويضاتٍ عنها في حال الدخول مستقبلًا بمناقشات الحل النهائي. هذا أضافة لموضوع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، مصيرهم وتسوية أوضاعهم. وضمان حقهم في العودة الى بلادهم التي اقتلعوا منها بالقوة.