عاش المؤلف الموسيقي اللبناني الدكتور عبدالله المصري منافي متتالية، منذ تفتّحت حواس روحه على هذه الدنيا، ومنذ أن رسم له القدر مسار حلمٍ ورديّ مناقض للمعيوش، بدءاً من المجزرة التي تعرّض لها أبناء بلدته المتنية صليما في بداية الحرب الأهلية اللبنانية، والتي هشّمت بنارها أوتار أوّل غيتارٍ له من صنع أبيه، وخطفت من حياته أحبّةً له، تاركةً أصوات ضحكهم وصفاء أرواحهم في ملعب قلبه، راميةً إياه في منفى ذكريات الطفولة، مروراً بالاجتياح الإسرائيلي للبنان وما خلّفه من دمارٍ وموتٍ خَطَف من حياته أشخاصاً عايشهم وأحبّهم، وآخرين مدّوا له يد الأمل في تحقيق أولى براعم تحقيق حلمه الموسيقي، لترمي به الحياة هذه المرة في منفىَ جديد، بعيداً عن فرح الشباب، مروراً أيضاً بمنفاه الأحبّ في موسكو، حيث تابع دراساته العليا في الموسيقى وبرز كواحدٍ من أكثر المؤلفين الموسيقيين الشباب إبداعاً وامتلاكاً لرؤيةٍ موسيقية طليعية لا تكتفي بمعايشة المألوف، بل تناطحه وتعاند جمود الموروثات، وتطرح أفكاراً تفتح الآفاق على إبداعاتٍ ترسم أبعاداً جديدة، وصولاً إلى منفاه (الطوعيّ هذه المرة) الذي أراده في دولة الكويت التي فتحت أمام موهبته وإبداعاته الباب واسعاً، مانحةً إياه فرصة قيادة الأوركسترا ومحاورة العازفين الشباب وتنمية مواهبهم وتطلعاتهم الموسيقية.
هذه المنافي وغيرها تسكن روح عبد الله المصري، وتفرض حضورها في شخصيته الإنسانية ومؤلفاته الموسيقية، ولا نعني بذلك أنه يستسلم لما تحويه من ذكرياتٍ محورها الحزن والفقد ولوعة غياب الأحبّة والاغتراب عن الأمكنة وعطرها، بل إنه يجذبها كلها إلى مساحة الفرح التي يحرص على توالدها في كلّ أعماله، كما في "بورتريه لأوركسترا الوتريات 1984- 1985" الذي نشره أخيراً، وهو عبارةٌ عن مؤلّفٍ موسيقي مدّته حوالي 10 دقائق.
صحيح أنّ هذا "البورتريه" هو من أوّل الأعمال الكلاسيكية للمصري، لكنّ فيه من النضج الفكري والموسيقي ما يكفي لرسم ملامح مؤلّف يمتلك مخزوناً إنسانياً كثيفاً وعمقاً فنياً يرتكز على الأصالة التي تلاقيها رؤيةٌ موسيقية معاصرة، وفيه يعتمد توليفةً موسيقية طليعية يستعرض من خلالها علاقته بثلاثة أصدقاء "شهداء" سقطوا في تلك الفترة الزمنية، فيرفع التحية لكلٍّ من سلمان سعيد وسليم ضو وإياد هلال، مستعيداً حياة وشهادة كلّ منهم، راسماً بالموسيقى تلك الحياة القصيرة التي عاشها رفيق طفولته سلمان سعيد، مصوّراً في دقيقتين غارقتين بالأسى إشراقة ومغيب شمسه، مع ابتسامةٍ يبترها الغياب والمجهول قبل أن ترتسم.. لتطلّ هامة سليم ضو، القائد الشجاع والمقدام في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي آنذاك، والمؤازر لعبد الله مع شقيقه الراحل الدكتور طليع المصري في تحقيق باكورة أحلامه الموسيقية، من خلال تأمين إنتاج كاسيت "جايين" لفرقة الجبل التي أسسها عبد الله، راسماً بالحركة الموسيقية، ملامح الإقدام والحيوية والفرح وحبّ الحياة التي ميّزت شخصية سليم، قبل أن يذوي في العتمة، تاركاً علامات استفهام بلا إجابة عن جدوى غيابه وغياب أمثاله. ويختتم المصري عمله الموسيقي باستعادة هدوء إياد هلال، الشاب الخلوق والمندفع الذي تليق به حياةٌ لم تدم، فإذا بالموسيقى تخفت وتقف صامتةً أمام ضجيج غيابه.
في هذا "البورتريه" الثلاثي نلمس قدرة المصري على التكثيف الموسيقي لمشاعر متناقضة، لكنها في الوقت ذاته قادرةٌ على رسم شخصية كلّ من هؤلاء "الأصدقاء الشهداء" بأسلوبٍ يجسد صدق مشاعره تجاههم، والحنين الحزين إليهم، من خلال تصويرٍ سيكولوجي مبنيّ على تفاصيل ذاتية حوّلها المؤلّف إلى مشاعر عامة أو مشتركة، بأسلوبٍ رؤيوي وعمقٍ ناضج امتلكه قبل أكثر من 30 عاماً، ولغةٍ موسيقية فريدة ليس من السهل الإمساك بتفاصيل وتراكيب عناصرها، بالرغم من هطول بعضها من نسيج ذاكرتنا الموسيقية.
"أشعر أحياناً أنّ شهداء تلك الحرب لم يناموا في أحضان الأرض، بل تحوّلوا طيوراً دائمة التحليق حولنا، يحاولون أن يقولوا لنا شيئاً".. هذه العبارة التي كتبها عبد الله المصري يوماً، تجسّد تقديره للشهداء، وحزنه على رحيلهم، وشعوره بالأسى لتبدّد حلمٍ قدّموا أرواحهم وشبابهم في سبيل تحقيقه وتغيير الواقع نحو الأفضل، فغابوا هم وبقي الواقع كما هو، بل بات أسوأ وأكثر ظلماً وظلاماً.
للاستمتاع بهذا العمل الموسيقي الرجاء الضغط على هذا الرابط: