يبحث العلماء في اعتبار الميكروبيوم Microbiome ويسمى (الميكروبيوتا) عضوا جديدا في الجسم، بعد أن بحث أيضا في اعتباره "البصمة الجينية الثانية"، والميكروبيوم هو عبارة عن مجموع وأنواع من الأحياء الدقيقة المجهرية الموجودة داخل الجهاز الهضمي، والتي يقدر عددها بالتريليونات، والتي لا تشكل نسخة فريدة خاصة بكل واحد منا فحسب، بل وقد تلعب دورا هاما في الصحة والمرض.
لمحة عامة
وقد أظهرت الدراسات الحديثة أن لـ "الميكروبيوم" أهمية في الصحة والمرض، وأن الإختلال في توازن الكائنات الحية قد وجد في حالات مرضية عدة، ابتداء من البدانة وصولا إلى مرض السرطان، وأن العمل على معالجة هذا الأمر هام للغاية.
وقد أشار الدكتور Thomas M. Barber والدكتورة Petra Hanson على اتجاه لاعتبار الميكروبيوم عضوا جديدا في الجسم، حيث يركز عملهما على البدانة والأيض، ويوثقان عبر دراسات عدة علاقة بين هذه الكائنات والصحة والمرض، منها دراسة حديثة أوائل هذا العام في مجلة Nature العلمية، التي وجدت علاقة بين ما يتناوله الإنسان من نظام غذائي ونسب هذه الكائنات فضلا عن علاقتها بالبدانة والأيض (استقلاب الغذاء).
تاريخيا
كان عالم البيولوجيا الجزيئية والفائز بجائزة نوبل الراحل جوشوا ليدربرغ Joshua Lederberg أول من اعتمد تسمية الـ "ميكروبيوتا" Microbiota، وقد تم تعريفها بأنها "النظام البيئي للكائنات الحية الدقيقة المتعايشة، والمتكافلة والمتسببة بالأمراض التي تشترك في مساحة أجسامنا، كما وأنه أطلق عليها أيضا البصمة الجينية الثانية Second Genome.
وكان طبيب الأطفال النمساوي – الألماني Theodor Escherich أول من اكتشف البكتيريا في الأمعاء في ثمانينيات القرن التاسع عشر، وقد سميت تلك البكتيريا بـ Escherichia coli لاحقا باسمه، وتبعها اكتشاف أنواع عدة، إلا أن الأبحاث حول الميكروبيوم بدأت بعد العام 2007، وبالتحديد مشروع الميكروبيوم البشري العالمي Human Microbiome Project، للتعرف على هذه المخلوقات التي تشاركنا أجسامنا، وساهمت "تكنولوجيا تتبع المادة الوراثية" DNA Sequencing Technologies في هذا الأمر، وقد توصل العلماء في السنوات الثلاث الأولى إلى التعرف على 200 نوعا من البكتيريا، ويقدرون أن يصل العدد بين 900 وألف نوع، تتوزع على الأفراد بنسب فريدة خاصة بكل شخص، ما يوضح التنوع الهائل في هذه المخلوقات.
وكما سبق وذكرنا، يمتلك كل شخص شبكة فريدة تمامًا من الكائنات الحية التي يتم تحديدها في الأصل بواسطة الحمض النووي للفرد DNA، حيث يتعرض الشخص لأول مرة للكائنات الحية الدقيقة أثناء الولادة في قناة الولادة، وعندما يكون رضيعًا، ومن خلال حليب الأم، تعتمد الكائنات الحية الدقيقة التي يتعرض لها الرضيع فقط على الأنواع الموجودة لدى الأم، كما ويمكن أن يؤدي التعرض البيئي والنظام الغذائي في وقت لاحق، إلى تغيير الميكروبيوم الخاص بالفرد ليكون مفيدًا للصحة أو يعرض الشخص لخطر أكبر للإصابة بالأمراض.
يتكون الميكروبيوم من ميكروبات مفيدة ومن المحتمل أن تكون ضارة، معظمها يعتمد علاقة تكافلية (حيث يستفيد كل من جسم الإنسان والميكروبات) من بعضها البعض، بأعداد أقل، هناك أخرى مسببة للأمراض أو تعزز المرض.
وتتعايش الكائنات الحية الدقيقة المسببة للأمراض والتكافل دون مشاكل في الجسم السليم، ولكن إذا حصل هناك اضطراب في هذا التوازن - بسبب الأمراض المعدية، أو بعض الأنظمة الغذائية، أو الاستخدام المطول للمضادات الحيوية أو غيرها من الأدوية المدمرة للبكتيريا – يحدث ما يسمى "دسباكتريوز" Dysbacteriosis أو Dysbiosis أي عدم توازن في البكتيريا، مما يوقف هذه التفاعلات الطبيعية. نتيجة لذلك، قد يصبح الجسم أكثر عرضة للإصابة بالأمراض.
كيف تفيد الميكروبيوتا الجسم؟
تحفز الميكروبات الجهاز المناعي، وتعمل على تفكيك المركبات الغذائية التي يحتمل أن تكون سامة، كما وتصنع بعض الفيتامينات والأحماض الأمينية، بما في ذلك فيتامينات ب B vitamins وفيتامين ك vitamin K. على سبيل المثال، كما وتوجد الإنزيمات الأساسية اللازمة لتكوين فيتامين ب 12 vitamin B12 فقط في البكتيريا، وليس في النباتات والحيوانات.
يتم امتصاص السكريات مثل سكر المائدة واللاكتوز (سكر الحليب) بسرعة في الجزء العلوي من الأمعاء الدقيقة، ولكن الكربوهيدرات الأكثر تعقيدًا مثل النشويات والألياف لا يتم هضمها بسهولة وقد تنتقل إلى الأمعاء الغليظة، هناك، تساعد الجراثيم على تكسير هذه المركبات بإنزيماتها الهضمية، يؤدي تخمر الألياف غير القابلة للهضم إلى إنتاج الأحماض الدهنية قصيرة السلسلة short chain fatty acids أو (SCFA) التي يمكن أن يستخدمها الجسم كمصدر غذائي ولكنها تلعب أيضًا دورًا مهمًا في وظيفة العضلات وربما الوقاية من الأمراض المزمنة، بما في ذلك بعض أنواع السرطان واضطرابات الأمعاء، أظهرت الدراسات السريرية أن SCFA قد يكون مفيدًا في علاج التهاب القولون التقرحي ومرض كرون والإسهال المرتبط بالمضادات الحيوية.
ستوفر الكائنات الحية الدقيقة للشخص السليم أيضًا الحماية من الكائنات المسببة للأمراض التي تدخل الجسم، مثل شرب أو تناول الماء أو الطعام الملوث.
عائلات وأنواع
تشمل العائلات الكبيرة من البكتيريا الموجودة في الأمعاء البشرية Prevotella و Ruminococcus و Bacteroides و Firmicutes، أما في القولون، وهي بيئة منخفضة بالأوكسجين، ستجد البكتيريا اللاهوائية Peptostreptococcus، Bifidobacterium، Lactobacillus، و Clostridium، يُعتقد أن هذه الميكروبات تمنع النمو المفرط للبكتيريا الضارة من خلال التنافس على العناصر الغذائية ومواقع الالتصاق بالأغشية المخاطية للأمعاء، وهي موقع رئيسي للنشاط المناعي وإنتاج البروتينات المضادة للميكروبات.
البروبيوتيك Probiotics
إذا كانت الجراثيم حيوية للغاية لصحتنا، فكيف يمكننا التأكد من أن لدينا الأنواع الكافية أو الصحيحة؟ قد تكون قد سمعت بالبروبيوتيك probiotics أو ربما تستخدمها بالفعل. هذه هي إما الأطعمة التي تحتوي بشكل طبيعي على كائنات حية مفيدة، أو مكملات من الأقراص التي تحتوي على بكتيريا حية نشطة معلن عنها لتعزيز صحة الجهاز الهضمي.
وقد تجاوزت مبيعات مكملات البروبيوتيك 35 مليار دولار في عام 2015، مع زيادة متوقعة إلى 65 مليار دولار بحلول عام 2024. سواء كنت تعتقد أن الادعاءات الصحية أو تعتقد أنها عملية احتيال أخرى، فإنها تشكل صناعة بمليارات الدولارات تتطور جنبًا إلى جنب مع الأبحاث الناشئة بسرعة.
يعتقد الدكتور ألان ووكر، أستاذ التغذية في كلية هارفارد تشان للصحة العامة وكلية الطب بجامعة هارفارد، أنه على الرغم من تضارب الأبحاث المنشورة، إلا أن هناك مواقف محددة قد تكون فيها مكملات البروبيوتيك مفيدة، يوضح ووكر: "يمكن أن تكون البروبيوتيك أكثر فاعلية في كلا طرفي الطيف العمري، لأن هذا عندما لا تكون الميكروبات لديك قوية كما هي في العادة، حيث يمكنك التأثير على عملية الاستعمار البكتيري الضخمة هذه بشكل أكثر فعالية باستخدام البروبيوتيك خلال هذه الفترات." كما يشير إلى حالات الإجهاد التي يتعرض لها الجسم حيث قد تكون البروبيوتيك مفيدة، مثل تقليل شدة الإسهال بعد التعرض لمسببات الأمراض، أو تجديد البكتيريا الطبيعية في الأمعاء بعد استخدام المريض للمضادات الحيوية. ومع ذلك، يؤكد ووكر أن "هذه كلها ظروف يحدث فيها خلل في التوازن داخل الأمعاء. إذا كنت تتعامل مع شخص بالغ يتمتع بصحة جيدة أو طفل أكبر سنًا لا يتناول المضادات الحيوية، فلا أعتقد أن إعطاء البروبيوتيك سيكون بهذه الفعالية في مساعدة صحتهم بشكل عام ".
النظام الغذائي و... الميكروبيوتا
بالإضافة إلى جينات الأسرة، والبيئة، واستخدام الأدوية، يلعب النظام الغذائي دورًا كبيرًا في تحديد أنواع الميكروبيوتا التي تعيش في القولون، كل هذه العوامل تخلق ميكروبيومًا فريدًا من شخص لآخر، يؤثر النظام الغذائي الغني بالألياف بشكل خاص على نوع وكمية هذه الميكروبات في الأمعاء، لا يمكن تكسير الألياف الغذائية وتخمرها إلا بواسطة إنزيمات من الجراثيم التي تعيش في القولون، يتم إطلاق الأحماض الدهنية قصيرة السلسلة (SCFA) نتيجة للتخمير، هذا يقلل من درجة الحموضة في القولون، والذي بدوره يحدد نوع الجراثيم الموجودة التي يمكن أن تعيش في هذه البيئة الحمضية، يحد انخفاض درجة الحموضة من نمو بعض البكتيريا الضارة مثل Clostridium difficile. تستكشف الأبحاث المتزايدة حول SCFA آثارها واسعة النطاق على الصحة، بما في ذلك تحفيز نشاط الخلايا المناعية والحفاظ على مستويات الدم الطبيعية من الجلوكوز والكوليسترول.
البريبيوتيك Prebiotics
يشكل الهليون Asparagus أحد الأطعمة الهامة التي تدعم زيادة مستويات SCFA هي الكربوهيدرات والألياف غير القابلة للهضم، مثل الأنسولين والنشويات المقاومة والبكتين، وتسمى هذه الألياف أحيانًا بالـ "بريبايوتكس" prebiotics لأنها تغذي الكائنات الحية الدقيقة المفيدة في أجسامنا. وعلى الرغم من وجود مكملات تحتوي على ألياف البريبايوتك، إلا أن هناك العديد من الأطعمة الصحية التي تحتوي بشكل طبيعي على البريبايوتكس. تم العثور على أعلى الكميات في المواد الغذائية النيئة التالية: الثوم، البصل، الكراث، الهليون،الخرشوف artichokes، الهندباء، الموز والأعشاب البحرية. بشكل عام، كما وتعد الفواكه والخضروات والفاصوليا والحبوب الكاملة مثل القمح والشوفان والشعير كلها مصادر جيدة للألياف البريبايوتيك.
ولكن يجب الحذر من تناول كميات كبيرة من الأطعمة التي تحتوي على البريبايوتك، خاصة إذا تم تناولها فجأة، إذ يمكن أن يزيد من إنتاج الغازات والانتفاخ، يجب على الأفراد الذين يعانون من الحساسيات المعدية المعوية مثل متلازمة القولون العصبي إدخال هذه الأطعمة بكميات صغيرة لتقييم التحمل أولاً. مع الاستخدام المستمر، قد يتحسن التحمل مع آثار جانبية أقل.
وإذا لم يكن لدى المرء حساسيات غذائية، فمن المهم تطبيق نظام غذائي غني بالألياف تدريجيًا لأن اتباع نظام غذائي منخفض الألياف قد لا يقلل فقط من كمية الجراثيم المفيدة، بل يزيد من نمو البكتيريا المسببة للأمراض التي تزدهر في بيئة منخفضة الحمضية.
تحتوي الأطعمة المخمرة التي تحتوي على البروبيوتيك على ميكروبيوتا حية مفيدة، قد تزيد من تغيير الميكروبيوم. وتشمل هذه الأطعمة المخمرة مثل أنواع من المخللات كالكفير والخضروات المخللة، والتيمبيه، وشاي كومبوتشا، والكيمتشي، والميسو، ومخلل الملفوف، كما ويحتوي اللبن أو الزبادي انواعا من الكائنات النشطة الحية.
مجالات البحث المستقبلية
الميكروبيوم عبارة عن بيئة ديناميكية حية حيث قد تتقلب الوفرة النسبية للأنواع يوميًا وأسبوعيًا وشهريًا اعتمادًا على النظام الغذائي والأدوية وممارسة الرياضة ومجموعة من التعرضات البيئية الأخرى. ومع ذلك، لا يزال العلماء في المراحل المبكرة من فهم الدور الواسع للميكروبيوم في الصحة ومدى المشكلات التي يمكن أن تحدث من انقطاع التفاعلات الطبيعية بين الميكروبيوم ومضيفه.
أما بعض موضوعات البحث الحالية التي يقوم بها العلماء فهي:
- كيف يؤثر الميكروبيوم ومستقلباته (المواد التي ينتجها التمثيل الغذائي) على صحة الإنسان والمرض.
- ما هي العوامل التي تؤثر على هيكل وتوازن ميكروبيوم الفرد.
- تطوير البروبيوتيك كغذاء وظيفي ومعالجة القضايا التنظيمية.
أما مجالات الاهتمام المحددة:
- العوامل التي تؤثر على ميكروبيوم النساء الحوامل والرضع والأطفال.
- معالجة الميكروبات لمقاومة الأمراض والاستجابة بشكل أفضل للعلاجات.
- الاختلافات في الميكروبيوم بين الأفراد الأصحاء والمصابين بأمراض مزمنة مثل السكري وأمراض الجهاز الهضمي والسمنة والسرطان وأمراض القلب والأوعية الدموية.
- تطوير المؤشرات الحيوية التشخيصية من الميكروبيوم لتحديد الأمراض قبل ظهورها.
- تغيير الميكروبيوم من خلال زرع الميكروبات بين الأفراد (مثلا زراعة البراز fecal transplantation).
المصادر: Harvard، Nature، Medical News Todayومصادر علمية.