وطني وطن أعفيته من مسؤولياته ولكنه أبى أن يعفيني من كل مصائبه. وطني عرف حاجتي فحرمني منها، وعرف معاناتي فزادها، واستقصى مخاوفي فأغدق علي بها ولا يزال. وطني وطن أثقل كاهلي حتى صرت أخجل من إنتمائي إليه. وطني وطن إسمه "لبنان".
منذ اللحظة التي استيقظنا فيها على هذا العالم، ونحن نكد ونتعب ونحارب ونقاتل بغية حياة ليست برغيدة بل كنا لنكتفي بحياة فقط، ونغض النظر عن كل حقوقنا المهدورة وعن إنسانيتنا الضائعة، لكن ذهب كل ما فعلناه سدىً. عندها قررنا الرحيل، فتركنا كل ما نحب وكل ما نملك وهرعنا إلى بلدان تشعرنا بأننا "إنسان".
لحظة غادرت لبنان أعفيته من كل مسؤولياته، وسامحته على ما مضى وعلى كل ما سيأتي. ولربما كان لي طلب واحد من هذا الوطن وهو الأمان لعائلتي وأحبائي الذين ربطهم مصيرهم بالبقاء في لبنان، لكن حتى هذا التمني لم يتحقق، فرغم كل الحروب والمآسي التي حلّت بلبنان، أتى إنفجار مرفأ بيروت في 4 آب (أغسطس) ليتخطى كل التوقعات، ويوقظنا على هشاشة الحياة في هذا الوطن.
في تلك اللحظة أيقنت أنْ لا سبيل لي من الهروب ولا العيش بسلام، حتى ولو كنت في آخر أقطار الأرض، فمن لديه عزيز في بلد لم يبقَ فيه للعز ولا للكرامة مكان، لن يهنأ له عيش ولن يغمض له جفن بسبب الخوف على سلامة من يحب. وعندما أقول "سلامة" أقصد سلامة الصحة، الغذاء والدواء، بالإضافة إلى الأمن والأمان.
"كان أهلنا يخافون علينا من الغربة ووحدتها، لكن أصبحنا نخاف عليهم في الوطن".
أنا لا أحمل ضغائن على لبنان فالأخير قطعة أرض جميلة ونادرة على هذا الكوكب. أما وطني فلا أنتمي له، فالوطن ليس ترابا وجمادا وأودية وأنهارا. لوطني أقول: "وداعنا الأول، يوم استودعتك سلامة عائلتي وأحبتي، لم يكن الأخير، لكني أعدك أنه يوم أطمئن على أحبتي في وطن يعرف معنى الطمأنينة، سأعيدها وأودعك وحين يأتي هذا اليوم المنتظر سوف يكون وداعنا الأخير".