إذا استثنيا من هَـبُّوا إلى الشارع انتصارا لكرامة، ورفضا لقهرٍ وظلامة، نجد أن فئات كبيرة من اللبنانيين تعيش في أقبية طوائفها، ولا يتحمل اللبنانيون هؤلاء مسؤولية الخواء في مقاربة واقع أزماتهم، وهم ضحايا أيضا، فالجوع لا يفرق بين موالٍ لزعيم الطائفة أو موالٍ لوطن ولفكرة دولة لا تزال إلى الآن بعيدة وغير قابلة للحياة، وهنا تتحمل الطغمة الطائفية الحاكمة تبعات هذا الأمر، خصوصا وأنها أوصلت محازبيها إلى قناعة أن "الطائفة مستهدفة"، فغاب الخطاب الوطني الجامع لصالح غرائز تتصارح وتتناحر، وهذا هو حالنا اليوم.
التعصب لفكرة مسبقة يولِّد الغباء، في الدين كما في السياسة والثقافة، وفي القضايا الفكرية عموما، ومن يتعصب يفقد مَلَكة التفكير، ما يوصل لزاما إلى "الغباء"، ورؤية الأمور من زاوية فردانية، وبتوجهات غير متَّسقة منطقيا، فكلام "الزعيم" مقدس، أي أن ثمة هالة مسبقة جللت كلماته بهالة "ربانية"، وغالبا ما يتنطح أحدهم (من أهل السياسة) للدفاع عن تمثيل طائفته، بينما لا نجد مسؤولا واحدا يدافع عن التمثيل الإنساني للبنانيين في الحكومة أو المجلس النيابي، أو في أي موقع من مواقع السلطة ومؤسساتها.
نبحث دائما عمَّن يمثلنا كبشر بعيدا من انتماءات ضيقة، وحبذا لو نتمكن من الوقوف على ثقافة التنوير الأوروبية منذ الثورة الفرنسية وبعدها، وهنا نستحضر قولا رائعا للفيلسوف الفرنسي مؤلف كتاب "روح الشرئع" مونتسكيو (1689_1755): "أنا فرنسي بالصدفة ولكنّي إنسان بالضرورة"، فمتى نغلِّب القيمة الإنسانية في وجودنا، دون التنكر لفكرة أننا لبنانيون.
إلى الآن، تأخذنا الطوائف إلى تقديس المسؤول، ما يفضي إلى أن ثمة من يفكر عنا، ومثل هذا الحال يتخطى اللبنانيين إلى دول العالم الثالث، ألم يقل يوماً وزير في عهد الرئيس الراحل حسني مبارك "إنتو ما تفكروش... إحنا منفكر عنكم"، وماذا كانت النتيجة؟ عادت مصر إلى مرحلة تشبه مرحلة مبارك، ولم تستفد من تجربة الثورة في بناء دولة عصرية، وهذا أمر يفترض فسحة أكبر من النقاش، يتطلب الخوض عميقا لجهة تَرسُّخ مفهوم الدين في الدستور والقوانين.
ما يهمنا في لبنان، كيف نتخطى "الغباء"؟ هذا السؤال يمثل بديهية ضرورية للخروج من أزماتنا الماثلة، خصوصا وأن "الغباء" في بلد مثل لبنان يشبه "الفيروس" تماما، أي أنه قابل للتحور وإنتاج سلالات جديدة أشد فتكا وأكثر ضراورة!