كما في كل محطة نجاحٍ لأيّ شخصية عالمية في مختلف القطاعات، ينطلق "أنف الشعب العنيد" في رحلة بحثٍ عن رائحة أيّ لبناني له إصبع في هذا النجاح أو الإنجاز ولو "عالريحة"، كما حدث مع عددٍ كبير من اللبنانيين المنتشرين في ربوع الكرة الأرضية والكثيرون منهم يستحقون التكريم، وآخر من ذُكر اسمهم السيد نوبار آفيان رئيس شركة "مودرنا" المصنّعة لأحد اللقاحات المضادة لفيروس "كورونا ١٩"، والذي سطع نجمه في لبنان خصوصاً، كونه أرمنياً- لبنانياً يعيش ويعمل في الولايات المتحدة الأميركية.
كما هي حال الكثيرين مثله، تصوّرت دهشة السيد آفيان من هذا الاهتمام به من قبل بلدٍ أبعده أهله عنه ليحظى بفرصة الدراسة والتخصص والعمل وقبلها ومعها بحياةٍ "طبيعية"، بعيداً عن التجاذبات والانتماءات والواسطات والبهدلات والتبعية لصاحب النعمة في وطن الأرز، لكني عذرتُ لأبناء بلدي فرحتهم ولو معنوياً في زمن الإحباطات والمآسي، وتوقّعت أن تكون كل القصة نوعاً من التعويض النفسي، إلى أن استضاف مارسيل غانم في برنامجه أمس "المفخرة اللبنانية" الجديدة من مقرّ إقامته الأميركية، انطلاقاً من قرارٍ أصدره رئيس الجمهورية يقضي بقيام سفيرنا في واشنطن غابي عيسى بتكريم آفيان الذي يشكل نموذجاً للنجاح اللبناني في العالم ومثالاً ينبغي على كل طامحٍ الاقتداء به، ومعه سبعة لبنانيين مدراء وعلماء في هذه الشركة.
روى السيد آفيان للسيد غانم أمس، وبلهجةٍ أميركية لا تشوبها أيّ لكنة لبنانية، ولا حتى عبارة "مساء الخير" أو "بحبك يا لبنان" أنه ليس لبنانياً، ولا يحمل هو أو والده الأرمني الذي هاجر من تركيا إلى بلغاريا ثم إلى اليونان فلبنان جواز سفر هذا البلد الذي سيكرّمه رغم أنه ليس لبنانياً ولا والده كذلك، بل عاش في "بلد النور" أول ١٣ سنة من عمره، قبل أن يهجره بلا رجعة، بسبب الحرب الأهلية!
ما لنا! فلا شك أنّ مناقيش الزعتر بالزيت واللبنة بالخبز المرقوق وسندويشات السجق والفول والحمّص لا تزال تسري في شرايين "ريّس مودرنا" الذي ينتظر أدنى فرصة للتعبير عن حبّه لمسقط رأسه وتتيح له ردّ الجميل للبلد الذي أمضى في ربوعه ١٣ سنة عدّاً ونقداً، وهي الفرصة التي قدّمها له السيد غانم على طبقٍ من فضة حين سأله "من خلال موقعك كرئيسٍ لشركة مودرنا وفي ظل حاجة لبنان إلى هذه اللقاحات، هل ستقدّم كميةً منها مجاناً للبلد الذي سيكرّمك"؟
دمعت عينا السيد آفيان؟ كلا. بان التأثر على وجهه؟ أبداً؟ تراقصت صور الطفولة وارتسمت ضحكاتها على وجهه؟ بالطبع لا، بل أجاب بكل وضوح وبساطة وصراحة، كما يُتوقّع من أيّ رجل أعمال الأولوية عنده ليست للعواطف: "هذه المسألة تخضع لقوانين وإجراءات لا يمكن تجاوزها"!! كان بإمكانه أن يضيف: "لكني سأقوم بواجبي تجاه لبنان، وسأرافق أول شحنةٍ من اللقاحات إليه"، غير أنه لم يفعل!
مهضوم رئيس جمهوريتنا ومستشاروه الذين يتحفوننا بآرائهم، ونسألهم: أليس في لبنان جيشٌ من الأطباء والممرضين "اللبنانيين" الذين يستحقون كلمة شكر؟ أليس في لبنان من يواجه بالحد الأدنى من الإمكانات وأعلى قدرٍ من الحس بالمسؤولية الظروف القاهرة ويموت أو يكاد ليبقى غيره أحياءً؟ قليكن التكريم لمن يستحقه.