ازداد المشهد اللبناني حدة بعد مئات الغارات الإسرائيلية والهجوم الجوي الأعنف منذ 2006 خصوصا لجهة الضربات المكثفة التي ناهز عددها 1600هدفا ليس على بلدات جنوبية فحسب بل على أكثر من 50 بلدة في البقاع الغربي والأوسط وبعضها على مسافة أكثر من 25 كيلومترا من الحدود جنوبا، وأخرى تبعد 100 كيلومترا بقاعا!
وتزامنت هذه الغارات مع تهديدات إسرائيلية باستهداف مناطق من العاصمة مثل الملا، عائشة بكار القريبتين من منطقة الحمرا، والطريق الجديدة قرب الكولا، وهي مناطق مختلطة ولكن تغلب عليها الطائفة السنية، فضلا عن صاروخ لم ينفجر طاول مدينة إهمج في قضاء جبيل وبلدة ميروبا في كسروان، ما فتح الباب على مصراعيه لامتداد رقعة الصراع إلى أماكن أكبر، ومع نزوح ما يقرب من نصف مليون لبناني من الجنوب وفقا لتقديرات أولية، قام وزير التربية والتعليم العالي في حكومة تصريف الأعمال القاضي عباس الحلبي بالإيعاز بفتح جميع المدارس الرسمية لاستقبال النازحين في كافة المناطق اللبنانية، والتي بدأت تكتظ بالنازحين.
وقد خلفت الضربات أضرارا مادية هائلة بالمنازل والسيارات والطرقات العامة والمزروعات، ولم تسلم سيارات آليات الدفاع المدني التابعة للهيئة الصحية الإسلامية من هذه الأضرار، كما شهدت الطرقات الجنوبية زحمة خانقة وصولا إلى مدينة صيدا والعاصمة وحتى إلى منطقة عكار التي تبعد حوالي 190 كيلومترا عن مدينة صور، وحاليا الطرقات مقفلة تماما جراء تكدس سيارات النازحين، وطالب الناس قوى الأمن الداخلي بفتح الطرقات على الأقل أمام سيارات الإسعاف، كما ناشد المواطنون العالقون بالسيارات على الأقل بالمياه التي تم توزيع بعضها في صيدا وعلى الطرق المؤدية للعاصمة.
وقالت الناشطة زينب كاعين من مدينة صيدا: "تطلب الأمر مني ساعتين ونصف الساعة من داخل مدينة صيدا إلى منزلي وهي مسافة أقل من 3 كيلومترات، كما وأطمأننت على أختي المقيمة بالصرفند حيث أصيب منزل بقربها بغارة جوية وهي بخير".
وفي الآن عينه، بات جليا الإكتظاظ على محطات الوقود ومحال السوبرماركت والتي عجت بصفوف لم تشهدها من قبل في مناطق الجبل مثل بحمدون وبعلشميه وعاليه وغيرها، وفي إحدى المحال التجارية لحظنا عربات السوبرماركت وقد امتلأت بالمواد الغذائية الأساسية المختلفة من خبز وأجبان وألبان وخضار وغيرها وحتى الشموع، كما اختفت ربطات الخبز تحديدا من رفوف المخابز والمحال التجارية المختلفة.
وقالت رئيسة جمعية الشوف للتنمية المحامية دعد اللقيس (وهي من الطائفة المسيحية) أن "مدينة برجا فتحت بيوتها للنازحين، وخصوصا وأنها الأقرب إلى صيدا، ومع زحمة السير وبعد أن علق الكثيرون في الطريق، توجه البعض منهم إلى المنطقة حيث امتلأت المدارس الرسمية الأربع فيها بالنازحين، وقد نستمر بالغد حتى بفتح أماكن في مدارس خاصة، وقد زودنا أهلنا بالفرش والأغطية والطعام عبر توزيع وجبة غذائية والمياه".
وأشارت إلى أن "هناك خلايا أزمة في معظم المناطق، وفي إقليم الخروب هناك خليتا أزمة واحدة في شحيم والثانية في برجا قامتا بتوزيع النازحين على المدارس ومنها مجمع المدارس في شحيم، مدرسة الوردانية والبرجين الرسمية ، كما بلغت بلدة الرميلة حدها الأقصى باستقبال النازحين".
مريم حيدر الأستاذة الثانوية في مدرسة الملعب الرسمية في طرابلس وهي من الطائفة السنية، فتحت وحدتين سكنيتين لها أحدها في مدينة طرابلس والثانية في دير عمار لعائلتين من الجنوب والضاحية، وقالت: "أنا موظفة بالدولة اللبنانية، يعني أنا معنية بكل لبناني مهما كانت طائفته، وانتماؤه، وأنا استقبلت عائلة من الضاحية في منزلي الخاص وهم أهلي وأخوتي، ويا ليت لدي مئة وألف بيت لأفتحه لأخواني في الوطن"، وتابعت: "في الأزمات تلغى الطائفية، فاللبناني دمي ولحمي وكرامتي وشرفي، ونحن في طرابلس نفتح بيوتنا دوما في وقت السلم والحرب للشرفاء من كافة أنحاء الوطن، فلولا أهل الجنوب لما كان هناك لبنان".
من جهة أخرى، خديجة دياب من سكان بير العبد قالت: "تفجر الطابق الأول من مبنانا بالأجهزة منذ يومين، وكنا ننوي المجيء إلى طرابلس، ولكن عندما وجدنا ان الوضع استقر إلى حد ما، بقينا، ولكن بعد الحوادث في الجنوب شعرنا بالخوف، لذا توجهنا إلى طرابلس، وأقطن بشارع عباس الموسوي في الضاحية".
من جهتها، قالت منى ناصر التي تقطن في منطقة بئر العبد، "عدد افراد عائلتي أربعة، وقد شعرنا بالخوف لأن العدو غاشم ولا يميز بضرباته، لذا توجهنا نحو طرابلس لمنزل السيدة مريم، والتي استقبلتنا بحفاوة، وكأننا بمنزلنا، وعسى أن نرد لها المعروف بالأفراح وليس بهذه الظروف، وكان الطريق مكتظا للغاية، وتطلب منا حوالي 4 ساعات للوصول".
وخلال تجوالنا التقينا رجل وامرأة في أحد الأفران، ولم يفصحا عن الأسماء، ولكن أكدا على أنه "تم استئجار منزل في منطقة الجبل وبالتحديد في بلدة القـْريَّة، وأثنيا على المعاملة الحسنة وأن الإيجار مقبول للغاية، بعكس بعض الأشخاص الذين حاولوا استغلال الحالة هذه وطلبوا مبالغ طائلة"، وتواصل معنا غسان علي وهو من الجالية السورية ويقطن في منزل في بلدة شويت قضاء بعبدا، وقال:"استقبلت سيدتين في منزلي، كانتا قد هربتا من الجنوب وقالت إحداهما لي لم نعرف كيف خرجنا ومع من، وقد اشتكت إحداهما من أحد الأشخاص الذي عرض ايجارهما غرفة غير مفروشة بمبلغ 500 دولارا لليلة، وخرجتا بملابسهما التي يرتدياها، وفرغت هواتفهما من الشحن، ولم تأكلا منذ الصباح، ولا تعرفان أين بقية عائلتهما، ولا كيف وصلتا إلى هنا، وقد تناولنا العشاء معا، وكنا ننوي استقبالهم للنوم، ولكن بعد شحن الهواتف، تمكنتا من التواصل مع أقاربهما وقاموا بأخذهما".
وفي هذا المجال، استحدثت مجموعة واتساب لأجل المنازل واقفل باب الدخول اليها خلال ساعات قليلة، بعد أن تجاوز عدد الأعضاء الـ 1022 عضوا، وتنوعت المنازل المعروضة بين مفروشة وغير مفروشة من كافة المناطق، كما استحدثت نقطة لإدارة النزوح باتجاه الشمال على تقاطع بشارة الخوري، فضلا عن أرقام لسيارات مؤمنة لمساعدة النازحين من الانتقال من الضاحية الى المناطق الآمنة دون مقابل مادي .
وناشد المواطنون على مواقع التواصل أحدها بطلب منزل لعائلة بعد فقدها أعزاء في منطقة السكسكية جنوبا، وثانية ببنزين لانقطاع سيارة عائلة من الوقود على طريق المصيلح قرب النبطية خصوصا وأن معهم أطفال وبحاجة للطعام والشراب، ومنهم من فقد أفراد من أسرتهم في محاولة للعثور عليهم، وإحدى العائلات وصلت من مجدل سلم إلى بلدة خلدة في محاولة للحصول على مسكن، وأخرى بأنها منذ الساعة الحادية عشرة صباحا على الطريق من بلدة كفررمان وهم في صيدا وغيرها من الحالات.
وأمام متوسطة عاليه الرسمية، التقينا بعائلة مكونة من خمسة أفراد، نزحوا من بلدة الشهابية التي تبعد عن صور حوالي 22 كيلومترا، والذين طلبوا عدم ذكر اسم العائلة، بأن "الطريق تطلبت منهم 10 ساعات للوصول إلى عاليه، وقد انضمت إليهم والدة وأخ الزوجة وعائلته وهم 7 أفراد، وأثنت على المعاملة الحسنة التي تلقوها بالرغم من شح الإمكانيات، مؤكدين تفهمهم لوضع الأزمة الإقتصادية التي تؤثر على الجميع، وفي هذا المجال، قال أحد المسؤولين عن المدرسة أنها استوعبت حتى الآن 100 فرد، ومن الممكن فتح طابق آخر لاستيعاب المزيد من النازحين، وأن هناك آلية لتسجيل النازحين لدى مركز الحزب التقدمي الإشتراكي وقد يتم وقتها التأكد من البيانات الخاصة بإحصاء عدد النازحين بدقة.
كما أفادت مديرة متوسطة عاليه الرسمية حنان اللحام، أن اتصال قد وردهم من وزارة التربية والتعليم العالي في منتصف الليل الفائت، للبدء بتجهيز المدرسة لاستقبال النازحين، وأنه ليس لديها معلومات حول العدد بالضبط، وبالمقابل تم رفض طلبنا للتصوير حفاظا على خصوصية النازحين وتقديرا للمحنة التي تعرضوا لها، وقالت اللحام: "أضع نفسي مكانهم وهو ما تعرضنا له في العام 1985، ولا يمكن أن أضع أهلنا النازحين تحت وطأة المزيد من الضغوط، خصوصا بعد ما مروا به من قصف ومآسي طاولت أفراد من عائلاتهم وأنسبائهم وقراهم".
تم نشر هذا المقال بالتعاون مع منصة إيجاب Egab، حيث تم استخدام جزء من هذا المقال في موقع "العربي الجديد" The New Arabباللغة الإنجليزية، ويمكن قراءة المقال هنا