لا زال لدينا الكثير لاكتشافه في هذا البلد الصغير، لا سيما في مجال التنوع البيولوجي، ومؤخرا قام الباحث رامي معلوف بتقديم أحدث مقالة بحثية تحت عنوان "Epipactis palustris في شرق البحر الأبيض المتوسط (لبنان)، نوع مفاجئ بين نباتات مستوطنة أخرى يتحدانا فيما يتعلق بحفظه" Epipactis palustris in the Eastern Mediterranean (Lebanon), a surprising peripheral micropopulation challenges us with its conservation، وبالتعاون مع الباحث في جامعة مرسيليا إيرول فيلا Errol Véla ، وتتمحور حول نوع من الأوركيد (من السحلبيات) النادر البري، والتي تسجل لأول مرة في لبنان وبالتحديد في قرية بسكنتا.
وقد تم نشر الورقة البحثية في في المجلة الإيطالية المرموقة Flora Mediterranean والتي توثق وجود أول ظهور مسجل لمجموعة صغيرة من السحلبيات من نوع Epipactis palustris في لبنان، والمعروفة بالإسم الشائع باللغة الإنجليزية Marsh Helleborine، مما ساهم في إضافة فصل جديد من الإكتشافات إلى التراث النباتي للبنان، ويحدد البحث القضايا الفريدة المتعلقة بالحفاظ على البيئة المرتبطة بهذه المجموعة السكانية الصغيرة الفرعية، وتحديات الحفاظ على البيئة المحيطة بها.
وقد قام الدكتور منير معلوف، باكتشاف هذا السجل الجديد، مما عزز بشكل كبير المعرفة بنباتات لبنان، كما ساهم إيرول فيلا بإرشاداته وخبرته، والتي تعد حاسمة لهذا البحث.
وأشار البحث إلى أنه تم تسجيل 46 نوعًا أصليًا من السحلبيات في لبنان حتى الآن ، ولكن لم يتم توثيق E. palustris في البلاد قبل هذا التقرير، وقد تم العثور على أقرب مجموعات معروفة منها في تركيا، وينتشر هذا النوع على نطاق واسع في شمال ووسط أوروبا والشرق الأوسط وآسيا الوسطى وفي مجموعة متنوعة من الموائل، بما في ذلك المستنقعات والمروج الرطبة وحواف المستنقعات والجداول والغابات الرطبة والخنادق، ويساهم هذا الإكتشاف ببيانات قيمة في الاستكشاف الجاري لنباتات السحلبية الأصلية في لبنان.
ويتميز نبات E. palustris بسيقان قوية يصل ارتفاعها إلى 30-80 سم وأوراق مطوية مرتبة حلزونيًا ومجموعة زهرية من جانب واحد تحمل عدة أزهار ذات سيقان بيضاء مخضرة مميزة بأوردة أرجوانية، وتعتمد الأزهار على الملقحات الحشرية، حيث تكون الدبابير والنحل الزوار الأساسيين، وبعد التلقيح الناجح، تتشكل كبسولات بذور على شكل بيضة، وتعتمد البذور الصغيرة الشبيهة بالغبار على الفطريات المتعايشة معها لتنبت وتتطور.
وفي جميع أنحاء توزيعها، شهدت E. palustris انخفاضًا في أعدادها بشكل أساسي بسبب فقدان الموائل بسبب تصريف الأراضي الرطبة لاستخدامها للزراعة، واستخراج الخث من المستنقعات، والتغذية الزائدة، واستنزاف المياه الجوفية، وتعتبر "أقل إثارة للقلق" least concern على اللائحة الحمراء لـ IUCN على المستوى الأوروبي والعالمي، ولكنها مهددة بالإنقراض أو منقرضة تقريبًا في عدة أجزاء من نطاقها.
وقد أجريت مسوحات الأزهار من 25 تموز/يوليو إلى 5 آب/أغسطس 2023، مما أدى إلى تطوير جمع كل من الصور والعينات من Epipactis palustris، جنبًا إلى جنب مع مسح شامل للنباتات المرتبطة، حيث تم تصوير عينات النباتات باستخدام كاميرا مجهزة بعدسة متطورة، كما تم الحصول على الإحداثيات الجغرافية للعينات من نظام تحديد المواقع العالمي المدمج في الكاميرا نفسها، كما تم تحديد هوية النباتات باستخدام مفاتيح التعريف المعمول بها ذات الصلة حول النباتات، وعلى الرغم من أن المسوحات الزهرية امتدت إلى المناطق المجاورة، إلا أنه لم يتم العثور على عينات أخرى من هذا النوع من السحلبيات.
وقد تم فحص العينة في بسكنتا، جبل لبنان، من قبل الدكتور منير معلوف في منطقة رطبة حول مجرى مائي في غابة، على ارتفاع 1210 م، في 25 تموز/يوليو 2023، وتم العثور على العينات بأعداد جيدة في بيئة مظللة ركائز رطبة، تقع داخل منطقة غابات الصنوبر والبلوط التي تتميز بتضاريس الحجر الرملي وبينما تم تحديد خمسة نباتات في نفس الموقع، كانت ثلاثة منها فقط في حالة الإزهار، ومن الجدير بالذكر أنه لم يتم ملاحظة أي ملقحات خلال هذه الملاحظة، ومع ذلك، خلال الزيارة الأخيرة في 18 آب/أغسطس 2023، لوحظ أن النباتات المزهرة الثلاثة أنتجت أيضًا بذورا.
وفي هذا المجال، أشار الباحث رامي معلوف إلى أن "النبتة ليست معرضة للإنقراض عالميا، ولكنها مهددة محليا، بسبب اكتشاف خمس منها فقط في لبنان رغم بحثنا لمدة سنتين عن عينات أخرى، كما ذكرنا في البحث. للأسف ليس لدينا في لبنان تصنيف وطني للنباتات والحيوانات المهددة بالإنقراض، علما أن هذه النبتة محمية بالقانون في المملكة المتحدة وأوروبا الشرقية لندرتها، أي هناك عقوبات على قطفها".
وأضاف: "نتيجة الأبحاث التي قمنا بها، تبين لنا أنه من المستحيل أن تصل هذه البذور من تركيا لأسباب عدة، ومنها أبحاث سابقة أثبتت صعوبة إنباتها، فقد تبقى البذور في الأرض لسنوات قبل أن تنبت لحاجتها لظروف معينة مثل درجات الحرارة السنوية وتفاوت هذه الحرارة بين الفصول، وضرورة وجود نوع من الفطريات في التربة لتساهم في إنباتها، وهذا يثبت وجودها في لبنان، ولم يتم اكتشافها من قبل، والسؤال الذي يطرح نفسه، هل كانت بأعداد أكبر وتقلصت أعدادها بسبب عوامل معينة مثل الإنسان".
ومن الأمور المقلقة بالنسبة لمعلوف أن "هذه السحلبيات موجودة في منطقة حساسة بيئيا لوجودها مع نباتات مستوطنة ومعرضة للإنقراض مثل نبتة آكلة للحشرات Drosera rotundifolia، وزهرة أوركيد أخرى لا تتواجد إلا في لبنان Dactylorhiza phoenissa، ونبتة Romulea phoenicia وهي نبتة معرضة للإنقراض أيضا، وغيرها، وكذلك وجودها في أراضٍ مصنفة للبناء، فعلى بعد لا يتجاوز 220 مترا هناك مبنى أشيد منذ فترة وعلى أعلى المجرى بمسافة لا تزيد عن 170 مترا ثمة مبنى آخر تم تشييده السنة الماضية، ونخشى أن يتم تلويث المجرى بمياه الصرف الصحي والنفايات ما يعرضها وغيرها من النباتات النادرة لخطر الموت".
وأشار إلى دور الجمعيات البيئية والمحلية والجهات المعنية الهام في بسكنتا في هذا الإطار للحد من التدهور البيئي الحاصل والمستمر بصورة يومية ليس في بسكنتا فحسب، بل في المتن بشكل عام مثل بقعتوتا وكفرذبيان وغيرها.
ويضيف هذا الاكتشاف فهما للتنوع البيولوجي في لبنان ويثير أسئلة مهمة حول توزيع النباتات والحفاظ عليها في المنطقة، ويؤكد على الحاجة إلى مواصلة استكشاف وحماية التراث الطبيعي والتنوع البيولوجي في شرق البحر الأبيض المتوسط.
الصور من تصوير الدكتور منير معلوف