في تحدٍ واضح لقرارات سابقة، وتمرد على قرار مجلس شورى الدولة، أصدر مجلس الوزراء قرارًا في تاريخ 28/5/2024 قام بالتمديد بصورة استثنائية لخمس شركات ترابة باستخراج المواد الأولية اللازمة لصناعة الترابة، بهدف تلبية لحاجات السوق المحلي لمدة سنة، وقد صدر القرار بناءً على اقتراح وزيري الصناعة والبيئة، وفقًا لآلية تمديد العمل بالتراخيص المتبعة في قرار مجلس الوزراء رقم 5 الصادر بتاريخ 15/2/2022، وهذا القرار يعيد إحياء قرار سبق أن أبطله مجلس شورى الدولة في تاريخ 20/4/2023 لمخالفته أحكام المرسوم رقم 8803/2002 (تنظيم المقالع والكسارات)، فضلا عن نية مجلس الوزراء (أو حكومة تصريف الأعمال)، إدخال تعديلات على هذا المرسوم، كما لم ينسَ القرار تأكيد احترام الحكومة التزامات لبنان والمعاهدات الدولية الموقعة لجهة الحفاظ على البيئة وتحقيق التنمية المستدامة، في موازاة التقيد بالقرارات والتعاميم الصادرة عن وزارة البيئة المتعلقة بآليات المراقبة البيئية وإعادة تأهيل المواقع المتدهورة بيئياً.
ووفقا لموقع "المفكرة القانونية" يأتي هذا القرار بمثابة تمرد واضح على قرارات عدة أصدرها مجلس شورى الدولة في السنوات الأخيرة بتاريخ 19/1/2022، 20/1/2022 و15/3/2022 بإبطال قرارات حكومية بمنح مهل إدارية لاستثمار مقالع، فإنه يأتي أيضا بمثابة تجاهل للجهود الكبيرة التي بذلها الجيش اللبناني ووزارة البيئة نفسها من أجل تثبيت حجم المخالفات المرتكبة في معرض استثمار المقالع وبخاصة من شركات الترابة، والمبالغ المالية المتراكمة في ذمتها من جراء ذلك والتي قدرتها وزارة البيئة بحوالي مليارين ونصف دولار أميركي، واليوم تبادر وزارة البيئة نفسها إلى منح شركات الترابة امتيازا مخالفا للقانون باستثمار المقالع لمدة سنة كاملة، متخلية بذلك عن إمكانية التذرع بالمرسوم رقم 2002/8803 في مواجهة هذه الشركات، وأيضا عن حماية البيئة ومصالح الخزينة العامة، وكل ذلك في أكثر الأوقات حرجًا وضغطًا على هذه المصالح.
وهذا القرار يستعيد نظام منح "المهل الإدارية" بمخالفة القوانين التنظيمية، بمعنى أن الحكومة تبيح لنفسها منح امتيازات خاصة لجهات تحددها (شركات الترابة الخمس) بمخالفة القانون لمدة معنية، وفيما تم إرساء هذا النظام بمنح مهل إدارية في التسعينيات بحجة ضرورات إعادة الإعمار بعد حرب 1975-1990 وغياب نص تنظيمي لقطاع المقالع، فإن اللافت أن الحكومة استمرت في منح هذه المهل الإدارية بعد وضع النص التنظيمي المتمثل في المرسوم 8803/2002. وقد استمرت الحكومات المتعاقبة بانتهاج هذا النظام في تغطية مخالفات الكسارات انطلاقا من الحجة نفسها (حاجة السوق إلى استخراج الصخور) مبررة تجاهل المرسوم إما بأنه غير قابل للتطبيق أو أن لها النية في تعديله كما سبق بيانه.
وفيما لم تشرح الحكومة أبدا الأسباب التي تعوق وضع المرسوم موضع التنفيذ أو الأسباب التي تبرر استغراق سنوات كثيرة قبل إدخال تعديل عليه، فإن التذرع بحاجات العمران تدحضه أرقام تصدير الترابة إلى الخارج كما يدحضُه واقع ارتفاع عدد الشقق الشاغرة، إذ يتبين بحسب بحثٍ لمختبر المدن في بيروت أن معدلات الشغور مرتفعة جدا في بيروت وتتجاوز 23 بالمئة وخصوصا الشقق الفخمة التي تتجاوز نسبتها 50 بالمئة.
وبهذا، تعود الحكومة لتؤكد توجهها في إبقاء قطاع استثمار الكسارات والمقالع وبشكل أعم الإسمنت قطاعا خارجا عن القانون يتعين على من يغامر فيه أن يرضي القوى التي تمنحه امتياز مخالفة القانون تحت طائلة فقدانه، مع ما يستتبع ذلك من احتكارات يتم التحاصص على منافعها بين هذه القوى.
وما يزيد من فداحة التطبيع مع المخالفة، هو أنه يحصل رغم إصدار مجلس شورى الدولة 4 قرارات بإبطال قرارات حكومية في هذا الخصوص، وهي القرارات التي احتفى اتحاد بلديات الكورة بالتعاون مع "المفكرة القانونية" و"وصية الأرض" بصدورها، ولم يكتفِ مجلس الوزراء بتكرار المخالفة المذكورة، إنما ذهب إلى حد الاستناد صراحةً إلى الآلية المتبعة في قرار مجلس الوزراء رقم 5 الصادر بتاريخ 15/2/2022، وهو قرار كان مجلس شورى الدولة أبطله صراحة لمخالفته المرسوم 8803. وبذلك، يصل تمرد مجلس الوزراء إلى حد إعادة إحياء قرار باطل وبحكم غير الموجود، كل ذلك في انتهاك صريح لمبدأ فصل السلطات وإلزامية الأحكام القضائية (المادة 93 من نظام مجلس شورى الدولة) التي تصدر “باسم الشعب اللبناني”، فضلا عما يحمله قراره من انتهاك جسيم لحقوق المجتمع ببيئة سليمة.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن شورى الدولة كان اعتبر صراحة في بعض قراراته السابقة أن منح الحكومة مهلا إدارية على هذا الوجه إنما يشكل بالواقع تشجيعا من قبله على ارتكاب جرم استثمار مقالع من دون ترخيص وهو جرم يعاقب عليه حتى 3 سنوات وفق أحكام المرسوم 8803.
التخلي عن البيئة والخزينة معاً
وإذ تمنح "الحكومة" هذا الامتياز الحصري في استمرار لنهجها السابق، فإن ما يميز قرارها اليوم هو أنها تغدق هذا الامتياز على جهات ثبت أنها مدينة للدولة بمبلغ يقدر ب 2.394 مليار دولار أميركي على الأقل وفق دراسة صادرة عن وزارة البيئة وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي. ويمثل هذا الدين قيمة التعويضات المتوجبة على مستثمري الكسارات للدولة عن الكميات المستخرجة من قطاع المقالع والكسارات ومحافر الرمل بين عامي 2007 و2018[2]، من دون احتساب الغرامات وفوائدها عن التهرب الضريبي أو الامتناع عن دفع الرسوم أو العمل بلا ترخيص. هذا فضلاً عن الجرائم البيئية والصحية المرتكبة من قبل هؤلاء من تشويه الطبيعة وتلويث المياه والهواء. وقد استندتْ الدراسة المذكورة على المسح الميداني الذي أجراه الجيش اللبناني على مواقع الكسارات والمقالع ومحافل الرمل كافة، بناء على التكليف الذي نص عليه قانون موازنة سنة 2019 لتحديد كميات المواد المستخرجة من هذه المواقع ومن ثم احتساب المبلغ على أساس كل متر مربع من المساحة المستثمرة وكل متر مكعب من المستخرجات. في إثر هذا التقرير، عمدت وزارة البيئة إلى تنظيم جلسة تشاركية واسعة بالتنسيق مع هيئة القضايا وآخرين من أجل تحصيل حقوق الخزينة العامة. وفيما لم يعرف شيء عن الإجراءات المتخذة فيما بعد، يسجل أمر واحد وهو أن وزارة البيئة انخرطت في منح مهلة إدارية جديدة (سنة كاملة) لشركات الترابة المدينة بالنسبة الأكبر من الدين المذكور من دون أن يثبت تحصيلها لأي فلس منه. بمعنى أن وزارة البيئة لم تتخل وحسب عن مسؤوليتها الأساسية التي هي الحفاظ على البيئة، إنما أيضا عن حقوق الخزينة العامة التي كانت فاخرت سابقا ببذل جهود كبيرة بالتعاون مع الجيش اللبناني من أجل تحصيلها، كل ذلك في فترة الدولة فيها بأمس الحاجة إلى موارد ما برحت تستجديها هنا وهنالك. وليست الهبة الأوروبية وما دار حولها من نقاشات محتدمة إلا مثلا عن ذلك.
بتصرف عن المفكرة القانونية