لا شك أن ما يحصل مؤخرا من سجال "حامٍ" حول قضية البناء المشيد فوق مغارة فقمة عمشيت لم يأت من فراغ، بل هو مستمر منذ سنوات، ومنذ أن تم إعطاء الرخصة لبناء فوق هذه المغارة، التي تزورها فقمة الراهب "الخجولة" والمعرضة للإنقراض في بعض الأحيان، وفق ما وثقه ناشطون، وهم يتخوفون من إمكانية "ترهيبها" و"تخويفها" بسبب أعمال الحفر والبناء التي تحصل في هذا المحيط.
وعملا بالموضوعية والمساحة العلمية التي نحاول فيها التوصل إلى الحقيقة في موقعنا "زوايا ميديا"، فإن هذا السجال والتجاذب الكبير، لا شك أنه حيوي ولكن لا نعرف مدى علمية الطرح من قبل الجانبين، من يؤيد أو من الأفضل القول من لا يجد بإقامة البناء في محيط المغارة خطرا يذكر، ومن الجانب الآخر من يرفض هذا الأمر جملة وتفصيلا.
وهنا من الجميل اقتباس قول للخبير الأهم في مجال الثدييات والحياة البرية في منطقة الشرق الأوسط الأستاذ في الجامعة اللبنانية البروفسور منير أبي سعيد والذي قاله لي في إحدى المقابلات: "من الأفضل ترك الطبيعة وعدم التأثير عليها لا سلبا ولا إيجابا"، وهذا القول يساهم في التوازن الطبيعي وبصورة أقرب ما يكون لما يحدث حقيقة، وليس ضروري ما نشهده ونوثقه كبشر، حيث تحدث الكثير من الأمور البشعة، مثل سقوط فرخ طائر من العش، جراح تطاول أحد الكائنات الحية لتنفق بعدها أو يفترسها مفترس، وأمور أخرى لا مجال لشرحها جميعا.
وبناء على القول السابق، فمن الأفضل عدم تشييد أي مبنى أو حتى غرفة على مقربة من الأماكن التي تتواجد فيها الحياة البرية، ولا نعني بهذا القول الفقمة فحسب، بل على مقربة من الغابات والأحراج، فلا ندري كم يؤدي شق طريق مثلا، أو حفر أساسات لمبان مع الزحف العمراني، ولاحقا تشييد أبنية على الحياة البرية، وقد "نشكو" من وجود حشرات معينة أو أفاعٍ أو عقارب في منازلنا، ولكن نحن من استبحنا مجالها الحيوي، واغتصبنا موائلها من أشجار وحفر وأوكار في الأرض وخلافها.
ولنعد إلى بيت القصيد "فقمتنا النادرة"، فمشاهدات هذه الفقمة نادرة، فهي "راهبة" و"ناسكة" وهذا الأمر ليس تهكميا، فهي تفضل البقاء بعيدا عن أي أنشطة بشرية، وعلى الرغم من تقارير لباحثين ومنهم تقرير اطلعنا عليه للصديق سامر فتفت بأن الإرتجاجات غير محسوسة في المغارة، فالأمر قد لا يكون كذلك بالنسبة للحيوانات التي لديها مزاجها الخاص، والذي لا يمكن التنبؤ به، والحالة الوحيدة للتأكد من عدم "إنزعاجها" مما يحدث، هو توثيق مشاهدات لهذه الفقمة في المغارة عينها أو على الشاطئ اللبناني أمتدادا إلى الناقورة، حيث هناك أماكن تم توثيق وجود هذه الفقمة أو الفقمات فيها.
ونعود إلى التجاذبات الخاصة بالترخيص المعطى للبناء المشيد من قبل بلدية عمشيت، ومن ثم تدخل وزارات الأشغال والبيئة وغيرها، من المهم أن نلفت النظر إلى أن البناء على الأملاك البحرية لا يزال ممنوعا، وبدلا من المنع في مكان بالذات، فلنتخيل مدى الأذى الذي طاول شواطئنا التي من المفترض عامة ومن حق كل مواطن ارتيادها، وتم منعه في معظمها بسبب التعدي على الأملاك البحرية، فالأجدى حماية كافة هذه المواقع، واستعادة المواطن حقوقه على هذه الشواطئ جميعها مثلما هو الحال في كل أنحاء العالم، ما عدا لبنان!
وإن كان من حق أصحاب البناء المشيد استكمال الأعمال بالرخصة المعطاة من قبل البلدية والمصادق عليها من محافظة جبل لبنان، والمؤيدة بدراسة أثر بيئي من وزارة البيئة، فإنه ووفقا للناشطة في مجال الرفق بالحيوانات غنى نحفاوي "من الأخلاقي عدم التشييد في هذا المكان بالذات"، ولكن لأصحاب البناء رأي آخر، ويبدو أن الإصرار على هذا البناء أهم من كل شيء، لذا اكتفوا بعدم استخدام آليات ثقيلة في الحفر، وعدم إنشاء طابق سفلي في الموقع.
وبعيدا عن الأهداف الواضحة والمبيتة والبريئة للمنشورات الخاصة بهذا المجال، والتي تظهر من عددها وتراتبيتها واستمراريتها، فإن مدعي عام جبل لبنان القاضية غادة عون أصدرت قراراً بوقف الأعمال فوراً في محيط مغارة الفقمة بـعمشيت لحين التأكد من كافة شروط الأثر البيئي وتقييمه، علما أن هذا القرار ليس منعا بالمطلق وقد يأتي القرار سلبا أو إيجابا، وفقا لما يصدر عن الجهات المعنية من إثباتات.
ونعود إلى مقولة مغارة الفقمة، هذا اللقب جميل وبيئي وسياحي في آن معا، ولكن الفقمة روح حرة، تجوب البحار، وعندما تجد الأمن والأمان في مكان، ستقصده، وتبقى فيه وفقا لتوفر الغذاء والوقاية من الأخطار، والتي تكون أحيانا أكثر خطورة من حفريات، مثل الزوارق وبقايا عدة الصيد من شباك وصنانير وغيرها، وليس هناك برامج توثيقية وإحصاءات دقيقة لأعداد هذه الحيوانات، أو تسجيل تكاثر لها في مياهنا، لضعف الموارد من أبحاث وتمويل لها، وتبقى مشاهدات لهواة وشغوفين بالحياة البرية وخصوصا البحرية منها، وكما ذكرنا تبقى نادرة للغاية، لأن هذه الحيوانات بالذات تتجنب البشر، وهو الأمر الطبيعي في حالة كثير من الحياة البرية.
فلنترك الفقمة تقرر ما تريد بعيدا عن سجالاتنا، فهي لا يهمها مشاريعنا التي تعيد توطين الأحياء والتي تمر عبر مخاض عسير على مدى سنوات وعقود، وحتما إن أمنّـا الشواطئ من كافة الإعتداءات، فقد نجدها على طول الشاطئ اللبناني، وتصبح مرئية لكثير منا، وقد تشكل جزءا من سياحة بيئية من نوع مميز، تساهم بالإقتصاد المحلي النوعي في عمشيت وغيرها!