فيما وصفت كارثة إعصار دانيال في ليبيا بـ "9/11 ليبيا" تشبيها لكارثة الولايات المتحدة، أشار الدبلوماسي الأمريكي السابق وخبير التعافي بعد الصراعات في المعهد الأمريكي للسلام كيث ماينز، إلى أن فيضانات درنة، تتبع نمطًا مشابهًا لانفجار مرفأ بيروت في آب/أغسطس 2020 وزلزال تركيا في آذار/مارس من هذا العام، أي وجود حكومات غير قادرة على الاستجابة للكوارث المتوقعة، أو منعها حتى، لأن قدرتها قد تم تفريغها بسبب الفساد واللامبالاة وعدم الكفاءة".
وفيما لن نتطرق في مقالنا هذا إلى ملف الفساد في تركيا، ولن نستطع إلا أن نتناول الفساد في لبنان وبمقدار هزيل بالمقارنة مع واقعنا المأسوي، سنبحث بكارثة درنة باستفاضة إلى حد ما، علما أن ما يحدث على الأرض من تجاذبات سياسية بين الأطراف المتناحرة على السلطة في ليبيا، تنعكس معاناة وزيادة في عدد القتلى من المواطنين الليبيين الأبرياء!
وجاء هذا في معرض تعليق ماينز حول سبب فيضانات درنة لموقع "ذا ناشونال" The National الإماراتي، وكان ماينز قد نشر كتابا حول التعافي بعد الصراع بعنوان "لماذا يهم بناء الأمة"، إن بعض اللوم عن الكارثة في ليبيا يجب أن يقع على عاتق المجتمع الدولي، لافتا إلى الفشل الأوسع في جمع الأطراف المتحاربة وعدم التركيز على إعادة بناء البلاد.
إنهيار سدين وبداية الفاجعة!
وبالعودة إلى عنوان مقالنا، فقد أدت الفيضانات الناجمة عن العاصفة دانيال إلىانهيار سدين يوم الاثنين إلى إطلاق سيل من الطين والمياه على مدينة درنة شرق ليبيا، مما أسفر عن دمار طاول ربع المدينة، ومقتل الآلاف، ويخشى أن يكون أكثر من 10 آلاف شخص في عداد المفقودين، كما أدى إلى تهجير أكثر من 34 ألف شخص في درنة وبنغازي والبيضا، ما يهدد بكارثة إنسانية وصحية، بسبب عدد المفقودين وبقاء الكثيرين في العراء، وعدم قدرة وصول الناجين إلى الطعام والمياه الصالحة للشرب، بالإضافة لانتشار الجثث ما قد يؤدي لانتشار الأمراض الوبائية.
وقد أدت سنوات من الخلاف السياسي بين الفصائل الليبية المختلفة، والتي امتدت في بعض الأحيان إلى العنف، حيث لم تؤثر على حكم البلاد فحسب، بل أعاقت قدرتها على الاستعداد لمثل هذه الأزمات والتعامل معها، وينعكس هذا في العدد المختلف إلى حد كبير من الوفيات الناجمة عن نفس العاصفة التي تشكلت في اليونان في 4 أيلول/سبتمبر، والتي تسببت بأمطار غزيرة وفيضانات هناك وكذلك الأمر في تركيا وبلغاريا، وقد بلغ عدد القتلى نتيجة الإعصار في اليونان 15 شخصا، ومر الإعصار عبر البحر الأبيض المتوسط، وقد تسبب بهطول أمطار على وسط اليونان، قدرت بما يهطل سنويا خلال 24 ساعة، كما وخلفت الأمطار دماراً هائلاً، حيث اقتلعت الطرق والجسور والمباني والبنية التحتية الحيوية وجرفتها.
ورغم وجود بعض الانتقادات لاستعداد الدولة اليونانية واستجابتها لإعصار دانيال، فإن الحكم المستقر في البلاد والعلاقات الإقليمية القوية، مثل تلك مع الاتحاد الأوروبي، جعل التعافي أكثر سرعة بالمقارنة مما حصل في ليبيا!
سيناريو الكارثة
وبالمقارنة، فإن انهيار سدين أعلى مدينة درنة، وتحت ضغط مياه لم يستطيعا تحملها، كان أسوأ ما في الأمر، فلم تتم صيانة هذه السدود منذ أكثر من عقدين (في العام 2002)، كما ولم يتم بناء البنية التحتية للمدينة لتتحمل آثار فيضانات هذا الأسبوع، فضلا عن الجفاف، الذي ترك التربة السطحية كالطرق المعبدة، فكانت الأضرار هائلة، وقد أدى انهيار السدين إلى إطلاق ما يقدر بنحو 30 مليون متر مكعب (39 مليون ياردة مكعبة) من المياه، أي بما يقدر بـ 12 ألف مسبح أولمبي، والتي اكتسحت المدينة التي يبلغ عدد سكانها حوالي 100 ألف نسمة، .
ولم تكن السدود كبيرة جدًا، حيث يبلغ ارتفاع السد الأول 70 مترًا فقط (230 قدمًا)، وبمجرد انهيار السد الأول، كان الثاني يواجه معركة خاسرة، ولم يقتصر الأمر على التعامل مع الأمطار الغزيرة التي كانت لا تزال تتساقط في العاصفة فحسب، بل تعرض لجدار هائج من المياه المنطلقة بقوة من خلف السد الآخر أيضًا ، ولم تتعزز قوة المياه المضاعفة إلا بسبب اختلاف الارتفاع بين السدين الأول والثاني، وأخذ التيار السد الثاني في طريقه إلى درنة، ومدمرا في طريقه المدينة على مسافة حوالي 12 كيلومترًا (سبعة أميال) من قمة السد الأول قبل أن تصل المياه إلى البحر.
ووفقا لهاني شنيب رئيس المجلس الوطني للعلاقات الأمريكية الليبية، فأن "التآكلات في سدود درنة ليست جديدة، بل تم الإبلاغ عنها مرارا وتكرارا، بما في ذلك في المجلات العلمية منذ عام 2011 وما بعده، ولم يهتم أي مسؤول بهذا الأمر، فهذه ليست مجرد كارثة طبيعية، بل إنها كارثة إنسانية وكذلك نتيجة لإهمال سلطات المدينة"، وقال نائب رئيس البلدية، أحمد مدرود، إن الطريقة التي بنيت بها المدينة وضعت معظم السكان في مسار المياه المباشر.
واقع مأزوم!
وشهدت ليبيا أكثر من عقد من الصراع وهي منقسمة سياسيا. وتوجد حكومة معترف بها دوليا في طرابلس في الغرب لكن درنة تقع في منطقة تسيطر عليها إدارة منافسة مقرها بنغازي.
فبعد الإطاحة الدموية بمعمر القذافي بدعم من الغرب منذ 12 عاما في عام 2011، حكمت البلاد بشكل رئيسي إدارتان متنافستان مع أكثر من عقد من الصراع والإنقسام السياسي، وتحكم الأولى إدارة في طرابلس معترف بها دوليا والأخرى في طبرق، تدعم كل منهما مجموعة من الجهات الخارجية المتنافسة المختلفة بما في ذلك تركيا، الإمارات العربية المتحدة، قطر، تركيا، مصر ومجموعة فاغنر الروسية في تنازع خفي على ثروات ليبيا النفطية.
ولا توجد في درنة ومنذ 42 عاما، إلا مستشفى واحدا، وهو مرفق عبارة عن فيلا مستأجرة بخمسة غرف، وفقا لهاني شنيب رئيس المجلس الوطني للعلاقات الأمريكية الليبية.
وقال مدرود إنه على الرغم من استعادة الاتصالات إلى بعض أجزاء درنة، إلا أن الوصول إلى الطرق لم يتم تأمينه بالكامل بعد، ومع انقطاع الإنترنت والكهرباء في المدينة التي يبلغ عدد سكانها حوالي 100 ألف شخص منذ أن ضربت العاصفة، فقد يفسر هذا سبب ارتفاع أعداد القتلى، فضلا عن ارتفاع عدد المفقودين والنازحين.
وقد طلب المسؤولون الشرقيون المساعدة، لكن البنك المركزي في البلاد، المكلف بتخصيص الأموال في جميع أنحاء البلاد، لا يعترف إلا بالحكومة الغربية.
تغير المناخ
وقالت ليزي كيندون، أستاذة علوم المناخ في جامعة بريستول، إن العاصفة دانيال "توضح نوع الفيضانات المدمرة التي قد نتوقعها بشكل متزايد في المستقبل، مع ارتفاع درجة حرارة العالم وآثار التغير المناخي".
وقالت خدمة كوبرنيكوس لمراقبة المناخ التابعة للاتحاد الأوروبي إن "ارتفاع درجات حرارة سطح البحر على مستوى العالم يؤدي إلى مستويات قياسية من الحرارة في جميع أنحاء العالم، ومن المرجح أن يكون عام 2023 هو الأكثر دفئا في تاريخ البشرية".
ويقول العلماء إن المحيطات امتصت 90 بالمئة من الحرارة الزائدة الناتجة عن النشاط البشري منذ فجر العصر الصناعي، وأن العاصفة دانيال توضح الوضع غير المستقر للمجتمعات المتضررة من النزاع والمعرضة للمناخ، مثل تلك الموجودة في ليبيا، والتي تعتبر الأقل مسؤولية ولكنها الأكثر تأثراً بآثار تغير المناخ. عندما يتفاقم الصراع وعدم الاستقرار الاقتصادي، يصبح من الصعب على الناس والمجتمعات التكيف والتعافي، بسبب الافتقار إلى الاستعداد والبنية التحتية والوصول إلى الخدمات، تؤكد هذه المأساة الحاجة الملحة إلى الاهتمام والمساعدة الدوليين، فضلاً عن العمل المناخي.
مساعدات دولية
وقد وصلت مساعدات وطواقم إغاثة من الولايات المتحدة الأميركية، فرنسا، إسبانيا، المملكة المتحدة، الأردن، الكويت وغيرها، كما أرسلت تونس معدات طبية وحاجات أساسية للمواطنين، وأرسلت تركيا معدات لمستشفيين ميدانيين وفريق إنقاذ مؤلف من 168 فردًا ومركبتين للبحث والإنقاذ وزورقين للإنقاذ، كما زودت فنلندا وألمانيا ورومانيا خيم ميدانية مع أسرة وأغطية ومولدات كهربائية وخيم لمستشفيات وخزانات مياه وغيرها، وقالت إيطاليا يوم الثلاثاء إن فريقًا يضم رجال إطفاء ومسؤولين عن الحماية المدنية، كما أرسلت المزيد من رجال الأطفاء يوم الأربعاء، وقد هبطت طائرتان على الأقل تحملان مساعدات إنسانية من قطر في مطار بنينا الدولي في بنغازي في وقت مبكر من يوم الأربعاء، وتضمنت المساعدات معدات لمستشفى ميداني ومضخات مياه وخيام وبطانيات، ذكر التلفزيون الرسمي أن مصر سترسل حاملة طائرات هليكوبتر من طراز ميسترال لتكون بمثابة مستشفى ميداني وتقيم خيام إيواء لمن فقدوا منازلهم.
موقف رئيس الحكومة
وقد توجه عبد الحميد الدُبَيْبة رئيس الوزراء الليبي، وفي ملخص لحديث له بالقول (وبعد فوات الأوان): "كلنا نتحمل مسؤولية ما وقع في درنة وعلينا العمل على تقييم وضع السدود في ليبيا، ويتوجب علينا إعادة بعث الهيئة الخاصة بإدارة وصيانة السدود، فما وقع في درنة كان تنبيها قاسيا لنا بضرورة الاهتمام بوضع السدود والوديان في بلادنا"، ونرد عليه، تحرك بسرعة لإنقاذ الناس، وبعدها يجب محاسبة الجميع، ومنهم الحكومتين بمجمل أفرادهما وعناصرهما!
الفساد والبيئة
وفي الختام، أمام الفساد المستشري في بلادنا، من ليبيا إلى لبنان وتركيا ومعظم الدول وعواصم هذا الشرق، تتفاقم الأزمات ولا سيما أزمة المناخ، وتنعكس معاناة للبيئة والطبيعة وكائناتها، وفي سياق متصل إنما غير مباشر، أصبح مسمى "الربح السريع" هو الأيديولوجية المتبعة، حيث تستباح الثروات في بلادنا من نفط وخلافه، وفي لبنان مثلا ترزح الجبال تحت وطأة الكسارات والمقالع غير القانونية، والمحمية طائفيا ومناطقيا، وتعمل مناشير الحطب في أشجارنا المعمرة والنادرة كاللزاب، وتكتسح "جواريف، جمع جاروفة" البر والبحر ثرواتنا السمكية، وتقتل السمك وقبل أن ينمو ويكبر وينضج ليتكاثر ويصبح ثروة مستدامة، ابتغاء لبيع كيلوغرام واحد إن ترك لينمو يصل إلى مئة كيلوغرام على الأقل، عدا الصيد الجائر، الذي يقتنص مئات الآلاف من الطيور في المرة الواحدة، وبالخديعة والطرق الجائرة لتباع في صوان "شهية" حسب تعبير أحدهم، بينما إن تركت لتعود من هجراتها وتتكاثر، كما كان الهدف من منع الصيد للسنة الثالثة على التوالي، لشاهدنا أسرابا، لا تقتل الآفات الزراعية فحسب، بل يتمكن بعدها صيادون مسؤولون من ممارسة "هوايتهم النبيلة" بغض النظر عن آرائنا الشخصية بهذه الهواية، ولكن كما لا يفرض علينا رأي في هواياتنا، نفضل عدم التعرض لهوايات الآخرين، وخصوصا وأن هؤلاء الصيادون، يجدون ما يجري من صيد جائر مخالفا لكل القوانين، ومن الممكن الإسترسال والإفاضة في ملفات البيئة وارتباطه بالسياسة والفساد، فأينما تجد ملفا شائكا وخصوصا بيئيا وإهمالا، كما في ملف السدود في ليبيا وفي بلادنا، ما يفتح قضية السدود وأثرها المدمر على البلاد، مع نية حكومات سابقة بإنجاز 33 سدا، تحتاج معظمها لصيانة دائمة، وإلا يتعرض الناس والسلامة العامة للخطر، وللأسف في هذه الملفات جميعا لا نجد وفي كل منطقة إلا نافذا أو جهة سياسية وأذنابا تدعمه وترافقه، وتظلم كل ما هو جميل ونقي، وقد تتسبب بكوارث ليس لها مثيل مع عدم جهوزية لكافة القطاعات، لمعالجة الأمر في حينه!
بتصرف عن وكالات، الجزيرة، رويترز، الغارديان، ذا ناشونال وغيرها!
الصورة الرئيسية لـ Ayman Al-Sahili/Reuters