بحماس شديد لا يتكرر كثيراً، ينتظر العراقي أبو محمد زائراً، على أمل أن يعقد معه صفقة تدر عليه مبلغاً مُرضياً من المال، بغض النظر عن الأثر السلبي لهذه الصفقة على التنوع البيولوجي في العراق، وفقاً لـ "وكالة أنباء العالم العربي".
يملك أبو محمد، البالغ من العمر 58 عاماً، بستاناً في محافظة ديالى على بعد نحو 60 كيلومتراً شرقي العاصمة بغداد، والمعروفة بأنها موطن لأفضل أنواع طيور البلبل في بلاد الرافدين؛ ويستثمر وجود تلك الطيور النادرة في بستانه لجني أرباح كبيرة.
لكن هذا النوع من الصفقات سبب في تناقص أعداد تلك الطيور بدرجة كبيرة، حتى إن بعض المهتمين بها يخشون انقراضها في وقت قريب.
وقال محمد حكيم (41 عاماً)، وهو أحد مربي طيور البلبل في المحافظة، إن بلبل ديالى "يتعرض لهجمة صيد كبيرة وفي طريقه إلى الانقراض".
وأوضح حكيم في حوار أجرته معه "وكالة أنباء العالم العربي" أن هناك عدداً كبيراً من صيادي البلبل، أغلبهم يأتون من بغداد ومحافظات أخرى. وأشار إلى أن هؤلاء يعقدون صفقات مع أصحاب البساتين، التي يتكاثر فيها هذا النوع من طيور البلبل، ليأخذوا صغارها وهي بعمر أسبوع أو أقل.
وأضاف: "حيازة البلابل بصورة مستمرة تحول دون عملية التكاثر لهذا النوع المميز في العراق؛ فأخذ البلابل وهي صغيرة يعيق تلك العملية. وبهذا، فقد قلت أعداد البلابل إلى حدٍ كبير في المحافظة، إذ من المعروف أن البلابل إذا أُخذت من بيئتها ووضعت في أقفاص لا تتكاثر".
وتنتشر مقاطع فيديو كثيرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي لأقفاص تحتجز فيها أعداد كبيرة من البلبل العراقي في أسواق بيع الحيوانات ببغداد. ويوجد هذا الطائر في محافظات مختلفة داخل العراق؛ لكن تظل ديالى، وخصوصاً ناحية مندلي، هي الموطن الأصلي لأفضل أنواعه، الذي يطلق عليه البلبل المندلاوي أو المسلطن.
ونظراً لتعرضه للصيد الجائر، وتنامي حالة الجفاف وانحسار الأراضي المزروعة، فقد أطلق المجلس المحلي لناحية مندلي، تحذيراً في عام 2019 من انقراضه.
صيد البلبل
وبحسب العراقي رياض أحمد (39 عاماً)، وهو أحد مربي البلابل، فإن صيد هذه الطيور يكون بالاتفاق مع أصحاب البساتين بعد أن يبلغ عمر البلبل سبعة أيام إلى 15 يوماً، حيث يقوم صاحب البستان بتوفير المأكل له ليتمكن من الاعتماد على نفسه والأكل بمفرده.
أضاف في حوار أجرته معه "وكالة أنباء العالم العربي": "تتم صفقة البيع بعد موسم التكاثر في فصل الشتاء، وتكون من خلال شراء عش كامل بعد التأكد من وجود البلابل فيه".
والبلبل من فصائل الطيور الصغيرة الحجم، ويُعرف بحسن الصوت والتغريد، ويتصف بالذكاء والأُلفة وسهولة التربية.
وبحسب حكيم، فإن بلبل ديالى بالتحديد غير موجود في كل أنحاء العراق، ويتميز بتعدد أصوات التغريد العذبة، فضلاً عن لونه الفاتح واللون الأبيض على جانبي رأسه من أسفل العينين باتجاه الحَلْق.
من جانبه، أشار المربي رياض أحمد إلى أن أصل وجود البلبل العراقي هو في كل من محافظة ديالى وصلاح الدين بالإضافة إلى محافظة البصرة، وتحديداً قضاء أبي الخصيب، وكذلك في محافظة نينوى شمالاً.
وعن النوع الأفضل، أكد أحمد أنه بلبل ديالى، ولذلك ترتفع أسعاره إلى أكثر من 100 ألف دينار (نحو 76 دولاراً أميركياً) للبلبل الواحد في بعض الأحيان، بحسب قوله.
أثر بيئي وقوانين غير رادعة
وانتقد ناشطون في مجال البيئة غياب القوانين الرادعة لمنع الإتجار بالطيور النادرة أو المعرضة للانقراض، حيث أكد بعضهم أن نحو ألفي إلى ثلاثة آلاف من طيور البلبل تخرج من ديالى سنوياً إلى باقي المحافظات.
وكان قضاء أبو الخصيب في محافظة البصرة، على بعد نحو 550 كيلومتراً جنوبي بغداد، يتفاخر بكثرة البلابل في بساتينه الغنّاء؛ لكن بفعل انحسار مساحات الأراضي الخضراء في ظل موجات التجريف والجفاف، بدأت المحافظة تعاني هي الأخرى من تراجع أعداد هذا النوع من الطيور النادرة.
وقال الناشط البيئي مهدي ليث إن "تأثير المناخ يضر بجميع الكائنات الحية، وهو شديد وواضح في العراق أكثر من باقي دول العالم، مما يقلل فرص عيش البلبل العراقي أو ما يسمى بأبيض الخدّين... الصيد الجائر لهذه الطيور النادرة، خصوصاً في موسم التكاثر، يؤثر بشكل كبير على بقائها أيضاً".
وشدد ليث، الذي ينشر عبر حساباته على مواقع التواصل الاجتماعي مقاطع للتوعية بضرورة الحفاظ على التنوع البيئي في العراق، على ضرورة إسراع الحكومة العراقية في التشجير وإيقاف الصيد الجائر "كون تلك الطيور لا تمتلك مساحات خضراء للتكاثر فيها".
ورأى صلاح الدين صالح، مدير قسم التوعية المجتمعية في وزارة البيئة العراقية، أن التغييرات المناخية "لها أثر كبير على تنوع الأحياء في العراق والعالم".
وقال صالح في حديث لـ "وكالة أنباء العالم العربي": "وزارة البيئة تراقب الكثير من الأصناف النادرة، التي قد تكون مهددة بالانقراض أو الاختفاء بشكل نهائي من العراق؛ كما أن عمليات التهريب موجودة، لأن أغلب الحدود مفتوحة وهناك فجوات كثيرة تجري عمليات التهريب من خلالها".
أضاف: "الجفاف أثّر بشكل كبير على جميع الكائنات الحية وليس البلابل فقط... الصيد الجائر كذلك له نصيب كبير في انقراض هذه الأصناف وقلة عددها، وقدمنا شكاوى عديدة للجهات المعنية حول هذا الأمر وتم اتخاذ اللازم بشأنه".
وتعرض التنوع البيئي في العراق إلى ضربة كبيرة بسبب الجفاف وشح المياه، شملت أصنافاً نادرة من الحيوانات البرية والمائية، أبرزها غزال الريم والجاموس والرفش الفراتي (نوع من السلاحف)، والأسماك العراقية، وأبرزها الشبوط والكطان والبني.
ويشهد العراق أزمة جفاف كبيرة، دفعته إلى تقليص أراضيه الزراعية، بسبب خفض الحصة المائية لنهري دجلة والفرات من قبل دول الجوار، إذ بنت تركيا سدوداً على نهري دجلة والفرات، فيما قطعت إيران روافد تتجه إلى العراق.
وصنّف برنامج الأمم المتحدة الإنمائي العراق في المرتبة الخامسة بين الدول الأكثر عرضة للتأثر بالتغير المناخي، وخصوصاً مناطق الأهوار، في ظل انخفاض تدفق المياه بنهري دجلة والفرات بنسبة 29 بالمئة و73 بالمئة بالترتيب.
الشرق الأوسط _ وكالة أنباء العالم العربي