لم تكن الكاتبة ناريمان عفدكي 34 عاماً تفكر مطلقاً بأبعاد المشروع البيئية أو المناخية، كان حبها للجمال فقط ما يجذبها إليه، لكنها أدركت لاحقاً وبعد إنجاز جزء منه أهمية البيئة والمناخ، ومع كل خطوة من هذا المشروع النوعي تعلمت أشياء جديدة ومثيرة للاهتمام، وكان مشروع "الجدائل الخضراء" الذي بُعثت فيه الحياة هو المدرسة التي علمتها معنى الحياة.
سنزرع مكان كل شجرة اقتلعت عشر أشجار
هُجّرت ناريمان من مدينتها الخضراء قسراً، ونزحت إلى مدينة القامشلي التي تفتقر للمساحات الخضراء وتكاد تنعدم فيها الأشجار، وكان لذلك أثر كبير في نفسها وزاد من معاناتها.
تقول ناريمان: "عشت طفولتي في مدينة سري كانييه (رأس العين) المكتنزة بالمساحات الخضراء والأشجار، واعتدت على العيش في ظل الطبيعة الجميلة، ومن ثم لفتني انحسار المساحات الخضراء، وكنت أتساءل عن سبب هذا التصحر وسبب قطع الأشجار في الحدائق دون رادع، وعندما كبرت أدركت أن السبب الرئيسي هو سياسة الحكومة التي كانت تمنع زراعة الأشجار في مناطقنا بالذات والتي تسمى الجزيرة شمال شرقي سوريا".
كانت الحكومة السورية فيما مضى ولسنوات طوال تفرض زراعة المحاصيل الموسمية والبقوليات وبعض أنواع الخضار، لأن منطقة الجزيرة كانت منطقة خصبة وتنتج القمح والشعير بجودة عالية تكفي عموم سوريا ويصدر إنتاجها لبعض الدول الأخرى.
تقول ناريمان: "كنت واحدة من الأشخاص الثلاثة الذين قرروا أن يتبنوا مشروع "الجدائل الخضراء" وبدأوا بتأسيسه، ومن مبدأ لماذا نترك بلادنا ونهاجر إلى بلاد جميلة؟ دعونا نجعل بلادنا أجمل، وقد تحمست لفكرة المشروع لأكون ممن يساهمون في صناعة هذا الجمال".
تضيف ناريمان: "المرأة بطبيعتها تحب الأشجار والبيئة، وهي تتميز بالعطاء، وبرأيي أنها تشبه الشجرة بروحها وعطائها وتضحياتها ونتاجها، وهذا الرابط بين المرأة والطبيعة أجده ينبت في نفسي كامرأة، ولأنني لا أستطيع العودة إلى دياري المحتلة، ولا أستطيع أن أمنع قطع الأشجار فيها، قررت أن أزرع مقابل كل شجرة تقطع في مدينتي عشرات الأشجار في المدن الأخرى التي اعتبرها موطني الثاني".
وتأمل ناريمان أن تعود يوماً لمدينتها وأن تأخذ معها تلك الغراس لتزرعها مكان الأشجار التي اقتلعها المحتلون لتعيد الحياة لمدينتها من جديد، وتتأسف لأن الحرب تسببت بفقدان الأمل لدى الناس، وجعلتهم يهملون الزراعة، وأنها سلبتهم تلك الروح التي كانت تهوى الطبيعة والأشجار والزراعة، لذلك تطمح من خلال هذا المشروع إلى إعادة الأمل لهؤلاء الناس وإعادة إنعاش أرواحهم التي تعشق الطبيعة والأرض والأشجار، وتتمنى أن تصبح هي وأصدقائها المتطوعين مثالاً يحتذي به الجميع بدءاً بالمجتمع وانتهاء بالمؤسسات والبلديات التي كانت تصنع المجسمات (الأشجار الحجرية المصنوعة من الجبس والاسمنت) بدلاً من زراعة الأشجار الطبيعية.
تقول ناريمان: "رغم الصعوبات التي واجهتنا إلا أن تدفق المتطوعين ومساهمتهم معنا أدت إلى نجاح المشروع وصمودنا للاستمرار فيه، ولم يمنعنا ارتباطنا بأعمال أخرى من اقتطاع بعض من وقتنا كل يوم لزراعة وسقاية تلك الغراس".
أهداف المشروع
يهدف مشروع "الجدائل الخضراء" إلى زيادة المساحات الخضراء والحد من التصحر الذي تسببت به الحروب والصراعات في المنطقة، وتدمير البنى التحتية خاصة في مناطق شمال وشرقي سوريا، من خلال زراعة 4 ملايين شجرة، ونبعت فكرة المشروع من الحاجة الملحة لتغيير الواقع البيئي بسبب انحسار الغطاء النباتي في مناطق شمل وشرق سوريا خصوصاً منطقة الجزيرة، وبدأت من خلال منشور فيسبوكي تحول إلى فكرة راسخة تفاعل وتضامن معها الكثير من الناس، من ثم تبلورت الفكرة وأصبحت طموح ثلاثة أصدقاء (كاتبة، وصحفي، ومخرج سينمائي) ناقشوها بشكل جاد إلى أن أصبحت مشروعاً قيد التنفيذ على أرض الواقع وانضم إليه عدد كبير من المتطوعين/ات من الكتاب والمثقفين والإعلاميين والمهتمين بالشأن العام.
ولأن مناطق الإدارة الذاتية شمال شرقي سوريا تعاني من آثار الحرب، وكونها منطقة نفطية وعمليات استخراج وتكرير النفط البدائية التي تترك آثار سلبية خطيرة على الحياة والبيئة، وتزيد من معاناة الناس، انطلقت فكرة الحاجة الماسة لزراعة الأشجار لتكون بمثابة الرئة للطبيعة، وكان بداية إطلاق جرس الخطر للتنبيه بالمخاطر التي تواجهها المنطقة بيئياً بسبب آثار الحرب.
المصداقية والخطوات العملية
يقول الكاتب والمخرج السينمائي محمود جقماقي (37 عاماً) وهو من مؤسسي الجمعية الثلاثة: "ما ساعد على كسب التضامن والتعاطف وحالة الالتفاف الشعبي لدى عموم الناس حول "الجدائل الخضراء" هو المصداقية والخطوات العملية التي أنجزت وما زالت تنجز على مدار عامين من انطلاق المشروع، والنتائج الملموسة من خلال المشاتل والغراس التي يشاهدها الناس والمهتمون بالبيئة، حيث أصبح الفريق التطوعي يعمل كخلية النحل وانتشر في عدة مناطق ومدن، وهذه القاعدة الشعبية تشجعنا على الاستمرار كوننا نهدف إلى خلق وتعزيز الثقافة البيئية لدى الناس".
ويعتقد جقماقي أن المشروع يمسه شخصياً لأنه ينتمي لمدينة عفرين التي يؤمن أهلها بأن للشجرة روح، وهي كائن حي تتفاعل وتؤثر وتتأثر بمحيطها وتخلق حالة استثنائية.
وتتعرض مدينة عفرين مثل مدينتي سري كانييه (رأس العين) وكري سبي (تل أبيض) لممارسات وانتهاكات بحق الهوية الثقافية ولحملة إبادة بحق الإنسان والبيئة والشجر من قبل الجماعات الراديكالية التي تحتل تلك المدن، والتي تقوم باقتلاع الأشجار وكأنها تنتقم من سكانها من خلال قتل الطبيعة والأشجار.
يضيف جقماقي: "كان أفضل ردٍ على تلك الانتهاكات هو إظهار مدى قدرتنا على مواجهة ثقافة الموت بثقافة الحياة، وكأننا نقول لهم كلما قطعتم شجرة في مدينتي سوف نزرع بدلاً منها عشر أشجار في أي مكان من سوريا وأية أرض تطالها أيادينا الخضراء".
يعتبر جقماقي أن الشجرة كائن حي، وأن كل غرسة هي طفلة تحتاج للعناية والاهتمام، ويأمل أن يحد مشروعهم من حالة التصحر والقطع الجائر للأشجار، وأن يزيد المساحات الخضراء، والأهم من ذلك هو خلق حالة ثقافية مجتمعية لدى الناس بمدى أهمية الشجرة والبيئة وتأثيرها على حاضر ومستقبل المنطقة، ويقول: "إذا كنا نريد أن نعيش حياتاً صحية فالشجرة هي أوكسجين الحياة، تتم عملية الزراعة وفق عملية تنسيق وتعاون منظم ومدروس بين اللجنة العلمية للجدائل خضراء ومؤسسات الإدارة الذاتية ذات الشأن والمهتمة بالبيئة والزراعة والحراجيات وحتى التربية، كون هذه الأشجار توزع حسب الحاجة في المدارس والجامعات وأطراف المدينة وأيضاً يتم توزيعها على الناس ليزرعوها في مزارعهم وبيوتهم وأراضيهم وذلك بطرق منظمة وبشرط الاهتمام بهذه الغراس والشجيرات، كما أن هناك لجان متابعة لإنجاح مشروع التشجير والوصول للنتائج المرجوة".
إنجازات كبيرة بميزانية صفر
يتحدث الصحفي زيور شيخو 39 عاماً وهو الناطق باسم جمعية "الجدائل الخضراء" قائلاً:" تم النقاش حول المشروع مع مكتب البيئة في هيئة البلديات، فتبين لنا أن عدد موظفي البيئة غير كاف للقيام بخطوة مماثلة، لذلك وسعنا دائرة المشروع، واستقطبنا عدداً من الخبراء والمختصين الزراعيين والأكاديميين وشبان وشابات من كافة المناطق للعمل، ويتراوح عدد المتطوعين في كل بلدة ومدينة من عشرة إلى ثلاثين متطوعا ومتطوعة ملتزمين مع الجمعية".
ويطمح شيخو إلى إشراك كل المؤسسات المجتمعية ومؤسسات الإدارة الذاتية في هذا المشروع باعتبار المبادرة مبادرة شعبية تهدف إلى التنمية والحفاظ على البيئة بأيادي وجهود مجتمعية، لذلك يعمدون إلى طرق جميع الأبواب ويدعون طلاب المدارس والجامعات وأيضاً الكومينات المجتمعية والمجالس المحلية والبلديات للانضمام للمبادرة، ويقول: "إن عدد المتطوعين يزداد والاستجابة جيدة مع المبادرة".
ويؤكد شيخو أنه بعد الأزمة السورية وتغير الوضع السياسي في مناطق سيطرة الإدارة الذاتية شمال وشرقي سوريا، أصبح من الممكن العمل على هكذا مشروع، وتحقيق تنمية بيئية وكان هناك استجابة من الجهات المعنية فيها، وقامت الجمعية بإنشاء مشاتل وإنتاج الأغراس في مختلف المدن بالتعاون مع البلديات الريفية، وإنشاء مشاتل في كل بلدة يمكن الوصول إليها، ليكون في كل بلدة ومدينة متنفس طبيعي يمكن وصفه بالرئات الريفية، والعمل على إنشاء الغابات الصناعية من خلال زراعة الأشجار في كل مكان.
وأشار إلى أن هيئة البلديات في الإدارة الذاتية بدأت بتبني المشروع وأقرت بإنشاء غابات صناعية لتشكل قفزة نوعية في مجال البيئة وزيادة الغطاء النباتي.
ويواجه المشروع تحديات وصعوبات عدة منها تلوث الهواء والتلوث البصري نتيجة انتشار الأبنية دون معايير بيئية، وأيضاً انعدام الميزانية إضافة إلى قلة الخبرات في إنتاج الغراس باعتبار المنطقة كانت مهمشة ومقيدة ببعض المحاصيل الموسمية فقط.
ويقول شيخو: "بدأنا المشروع من الصفر، حيث كنا مجموعة من الأشخاص لا نمتلك أي نوع من الخبرة، وكنا نجمع أقلام الأشجار من المنازل والبساتين، ونحصل على بعض البذور من الأشجار الموجودة في بعض الأراضي والمنازل، وبعد توسع المشروع قام الفريق بشراء بعض أنواع البذور وزراعتها في الأكياس الزراعية، وإنشاء مشاتل في عدة أماكن وصل عددها حتى الآن إلى عشرة مشاتل رئيسية موزعة على عدة مناطق، منها مشتلين في مدينة قامشلي، مشتل في تربة سبية (قحطانية)، مشتل في درباسية، ومشتلين في الحسكة، مشتل تل تمر، مشتل كوباني، مشتل في الرقة، وعدد آخر من المشاتل الصغيرة الموزعة في بعض المناطق والبلدات، ومع اتساع مبادرة جمعية "الجدائل الخضراء"، بدأت البلديات الريفية أيضاً العمل على إنتاج الغراس".
وقد تم إنتاج 170 ألف غرسة حتى الآن، وتم توزيع 18 ألف غرسة بعمر سنة واحدة من أحد المشاتل، و15 ألف غرسة بعمر سنة واحدة من مشتل القامشلي، وسيتم توزيع المزيد خلال هذا الموسم، وقد ازداد عدد الغراس من نوع الصنوبر الثمري، حيث تم زراعة 250 ألف بذرة، إضافة إلى العديد من الأنواع الأخرى مثل الصنوبر الحراجي والسرو، والنخيل المروحي، وسبعة آلاف بذرة نخيل مثمر، الحنبلاس والدراق والمشمش والعنب والخوخ زرعت بكميات كبيرة، حيث سيتم إحصائها في الربيع بعد أن تنبت، وسوف تنتقل إلى الأكياس الزراعية بعد التجذير.
يقول شيخو: "دخل المشروع مراحل جيدة جداً من حيث التبني المجتمعي وقبول الجهات المختصة، حيث كان يتوقع البعض فشل المشروع بسبب عدم توفر الإمكانيات المادية، وكون المشروع هو تطوعي بشكل كامل".
التحديات وقلة الدعم
واجهت الجمعية العديد من الصعوبات أثناء تنفيذ المشروع حيث توجهت إلى المؤسسات المدنية التي تمتلك الآليات (التريكس والشاحنات) لنقل التراب الزراعي، وإقناعهم بالمشاركة في المشروع دون مقابل، إضافة إلى إقناع بعض المؤسسات باستخدام مساحات من الأراضي الخاصة بها لاستخدامها كمشاتل دون مقابل، ومن ذلك المنطلق قدمت شركة الجزيرة للبترول 4 مليون كيس زراعي بشكل مجاني، وبعض المؤسسات الأخرى ساعدت في الأعمال التنفيذية كنقل التراب وتنظيف الأراضي وتقديم مساحات من الأراضي لاستخدامها كمشاتل مثل جامعة روج آفا والاتحاد الرياضي في القامشلي، ثم بعد سنة من العمل والصدى المجتمعي الواسع للمشروع قدمت مؤسسة دانيال ميتيران مبلغ 24 ألف دولار كدعم للمشروع، وأيضاً تم منح جمعية "الجدائل الخضراء" جائزة بناة شمال شرقي سوريا من قبل مؤسسة دانيال ميتيران وسيتم تقديمها للجمعية خلال المؤتمر البيئي الذي سيعقد في فرنسا بين 3/ 16 كانون الثاني 2023.
ويأمل شيخو أن يكون هناك دعم للجمعية من بعض الجهات المهتمة بالبيئة، إلا أنه يؤكد أنه ليست هناك وعودا واضحة لأن المشروع ضخم ويحتاج إلى قدرات مالية كبيرة، وإن العاملين في المشروع جميعاً يعملون بشكل تطوعي ومجاني بداية من المهندسين والخبراء الزراعيين ووصولاً إلى الشابات والشبان، وهم بعد عامين من العمل التطوعي، من المؤكد يواجهون تحديات ضخمة كونهم يحتاجون إلى الدعم المالي للاستمرار خصوصا أن المنطقة تعاني من تدني الوضع الاقتصادي وذلك يؤثر على المجتمع والناس بشكل عام.
أما الصعوبات التي تواجه الجمعية كثيرة منها صعوبة الحصول على البذور كونها غير متوفرة في المنطقة، ويتم شرائها بمبالغ مالية كبيرة، إضافة إلى عدم توفر الآليات التي يحتاجها المشروع من وسائط النقل والجرافات وغيرها، ويتم الاعتماد حالياً على بعض الآليات المقدمة بشكل مؤقت من قبل بعض المؤسسات المحلية مثل دائرة المياه والبلديات، وتحتاج الجمعية إلى الرافعات لتتمكن من العمل بشكل أسرع والحصول على البذور أو الأقلام من الأشجار الموجودة في المنطقة مباشرة.
ويؤكد شيخو أن المتطوعين يحتاجون إلى ورشات تدريبية للمتطوعين في مجال الإدارة وأيضاً في مجال الزراعة كونهم غير متخصصين بالزراعة، وأن المهندسين الزراعيين والخبراء المتطوعين أيضاً يحتاجون للدورات، لأن خبراتهم قليلة في مجال زراعة الأشجار وليس لديهم تجارب حقيقية في ذلك، كما أن جمعية "الجدائل الخضراء" لا تمتلك مقراً خاصاً بها حتى الآن بسبب عدم وجود مورد مالي.
ملاحظة: تم إعداد هذه المادة كجزء من مشروع Her turnII الخاص بـ 15 من الصحافيات من أجل تغير المناخ من العراق وسوريا ولبنان، المقدم من منظمة Taz Panther Foundation.