إنّه الشّغف المحموم الذي يدفع الشّخص إلى مجال ما ليجعله يبدع، فلا داعٍ لأن يكون متخصّصًا، بل أن يكون "شغوفًا" ومتابعًا، ومرسّخًا المعرفة بالعمل الدؤوب للوصول إلى مكنونات مجاله، وهذا ما يميّز الناشط رامي معلوف الذي انطلق من عالم الموسيقى، ليتابع شغفًا موازيًا في عالم النباتات والزّهور، يصنّفها ويوثّقها ويشير إلى مواقعها. وهو كشف مؤخرا عن وجود نبتة آكلة للحشرات للمرة الأولى في بلدته كفرتيه في قضاء المتن جارة جبل صنين، وهو الجبل الذي يعتبر الموئل الأكثر تنوعًا للنباتات الزهرية في لبنان، ويتخوف معلوف من إمكانية انقراض هذا النوع الوحيد في لبنان وأنواع أخرى معرضة للخطر بسبب تهديدات مختلفة، ومنها تغير المناخ.
وقال معلوف لموقعنا "زوايا ميديا": "توجد النبتة الآكلة للحشرات واسمها العلمي Drosera rotundifolia في مناطق أخرى من لبنان؛ ولكنها نادرة جدًّا. وفقًا للباحث البروفسور جورج طعمة فهي موجودة في منطقة عين السواعير وبسكنتا وبقعتوتا، وقد وجدنا هذه النبتة للمرة الأولى في قريتي كفرتيه حيث هناك ستة أنواع من الزهور المتوطنةEndemic ، واحدة منها مهددة بالانقراض واثنتان في وضع هش أو ضعيف أو معرض للانقراض Vulnerable وفق لوائح IUCN أي الإتحاد الدولي لصون الطبيعة".
وأشار معلوف إلى أن "هذه النبتة تحتاج إلى الرطوبة على مدار العام، وتعيش على الطحالب للحصول على المياه، وبالتالي فهي تمتص المياه منها، وتعتمد على الحشرات للحصول على المغذّيات الأخرى كون جذورها سطحية ولا تطاول التربة، كما تفرز من أطراف أوراقها مادة لاصقة، وهي تزهر في الفترة بين شهري حزيران/يونيو وآب/أغسطس لتنتج البذور وتتكاثر، علمًا أن الجفاف الذي يتسبب به تغير المناخ والتّمدّد العمراني وتحويل الينابيع ومجاري المياه، كلّ هذه الأمور تهدّد هذه النبتة الوحيدة الآكلة للحشرات وغيرها من النباتات البرّيّة النّادرة في لبنان. ولقد علمنا بوجود هذه الزّهرة في هذا المكان من الممثلة الهاوية في مجال النباتات السّيّدة آمال بالش التي نشرت صورة لها في الفيسبوك على صفحة قريتنا عام 2019، وعدنا ووجدناها في أماكن أخرى من القرية".
ويقول معلوف: "لقد تبيّن لنا من خلال البحث الّذي بدأناه عام 2018 أنا ووالدي الدكتور منير معلوف أنّ هناك نباتات أخرى مهدّدة بالانقراض وهي متوطّنة في منطقة صنّين، ومنها زهرة Alchemilla diademata التي لا توجد إلّا في هذا الموقع فقط، وهي تواجه تهديدًا أكبر، فهي تنبت حيث الطحالب والحجر الرملي الرطب، ومع الأسف تتعرض للتهديد البشري كما تشاهدون في الصورة المرفقة بسبب استخدام الدراجات النارية، فضلًا عن الاستخدام غير المنظّم للمياه في الأغراض الزراعية ممّا يعرض مكان وجودها للجفاف".
Alchemilla diademata
ولفت معلوف إلى أن "النبتة الثالثة التي أود التحدث عنها وقد اكتشفنا وجودها في هذه السنة في كفرتيه هيStachys hydrophila ، هذه الزّهرة الموجودة في لبنان فقط وتنمو قرب الينابيع ومجاري المياه ووضعها مهدّد Vulnerable أيضًا، كما هي مدرجة على لوائح IUCN الحمراء، والتهديد الأكبر لهذه النباتات هو الإنسان وممارساته الجائرة بحق الطبيعة بشكل مباشر".
وتابع: "هناك دراسة أجرتها البروفسورة ماغدا أبو داغر خراط من الجامعة اليسوعية، بينت أن جبل صنين هو أهم موئل في لبنان للنباتات المتوطّنة والتي يبلغ عددها 27 نوعًا، متفوقًا على جبال لبنان الأخرى. وبالنّسبة إليّ فقد وضعتُ دراسة في هذا المجال في موقعي الخاص www.florafauna.life وهي تشمل جبل صنين وما يحتويه من زهور ونباتات نادرة. وفي هذا الموقع، تحت عنوان آخر هوEndemic flora of Lebanon مراجعة موثقة وحديثة لنباتات عدة في لبنان، وهناك أربعة أنواع زهور نادرة جدًّا ومهددة بصورة كبيرة في جبل صنين .هي: Alchemilla diademata Rothm. (CR) وRumex angustifolius subsp. libanoticus ، واثنتان منها لم تشاهدا أو توثقا منذ سنين كثيرة؛ ولكن لم يعلن عن انقراضهما بعد، وهما Lepidium culminicolum و"Tripleurospermum sannineum.
ويشمل موقع معلوف نباتات وحيوانات من بلاد أخرى مثل رومانيا والجزائر ومنطقة غاليسيا في إسبانيا، ولكنه في لبنان بحث أيضًا في المستحثات حيث تابع مع البروفسور في مجال العنبر اللبناني والمستحثات داني عازار اكتشافات عدة لحشرات في العنبر اللبناني، كما سجل عددًا منها تحت مسمّى "مجموعة معلوف الخاصة".
وأكد معلوف أن "النباتات في مكان ما قد تتطلب ملايين السنين لتتأقلم مع طبيعته، وبالمقابل، فثمة نباتات غازية قد تؤثر على التنوع البيولوجي الموجود، لذا فإن حملات التشجير ووفقًا لعدة دراسات، تتطلب دراسة أثر بيئي مثلما يحدث في حالات جميع الكائنات الحية من حيوانات وغيرها، حتى لا تؤثر بشكل سلبي، وهو ما نلحظه على سبيل المثال في غابات الصنوبر والأرز، التي تساهم في تغيير حموضة التربة وتعزل التربة عن أشعّة الشّمس، وتمنع بالتالي نموّ نباتات أخرى أو تقوم بقتل الأنواع الموجودة بشكل طبيعي".
وفي الختام، يثبت الهواة الشغوفون بالطبيعة يومًا بعد يوم أنهم يمكنهم القيام بأبحاث موثوقة ومهمة، وكان تشارلز داروين من المساهمين بصورة كبيرة في علم الأحياء التطوري واحدًا منهم، وقد كتب حول نبتة "الدروسيرا" في رسالة عام 1860: "في الوقت الحاضر، أهتم أكثر بالدروسيرا من أصل كل الأنواع في العالم". وقد أجرى عدة تجارب على هذه النبتة التي أثبت كونها آكلة للحشرات.
نأمل في موقعنا "زوايا ميديا" أن يتابع هؤلاء النّاشطون والعلماء في لبنان والبلاد العربية سعيهم في مجال حماية الطّبيعة على الرغم من كل المعوقات التي تعترضهم، وقد أثبتوا ذلك مرارًا، لذا نحاول من خلال تسليط الضوء على إنجازاتهم، تشجيع الجيل الجديد على متابعة العمل في هذا المجال وغيره، وإبقاء جذوة الأمل في نفوسهم وتثبيتهم في بلادهم ليبدعوا هنا، بدلا من الهجرة إلى الخارج.