info@zawayamedia.com
فن

إيلي شويري في الذاكرة... الفنان المشاكس الراقي

إيلي شويري في الذاكرة... الفنان المشاكس الراقي



من ميزات فترة عملي معدّاً ومقدّماً لبرامج ثقافية وفنية في إذاعة "صوت الجبل" في لبنان (من 1987 حتى 1992) هي أني لم أكن أكتفي باستضافة الفنانين والكتّاب والمغنّين والشعراء والمسرحيين والموسيقيين في أحد برامجي المتنوّعة، بل كنت أركز على مسألتين أساسيتين: الأولى شخصية، وهي حرصي على التواصل الدائم مع الضيف من فترةٍ إلى أخرى، والسؤال عنه وعن أحواله وأسرته، بعيداً عن أيّ مطلب لخبرٍ أو "سكوب" أو لقاءٍ إذاعيّ، انطلاقاً من إيماني بأنّ العلاقات الإنسانية والمجرّدة من أيّ غاية هي الأبقى.


والمسألة الثانية مهنية، وهي العمل على "توريط" ضيوفي لتكون لهم برامجهم الخاصة عبر أثير إذاعة "صوت الجبل"، ولقد قصدت استخدام عبارة "توريط" عن سابق قصد، وذلك لسببين: الأول هو انتفاء الإغراءات المادية، إذ كان للإذاعة طابع الانتماء المناطقي والحزبي و"النضالي"، ولم تكن المرحلة مرحلة ازدهارٍ فني أو مادي، حيث إنّ استضافتي للغالبية العظمى من هؤلاء الفنانين أتت بُعيد "وقف" الحرب اللبنانية. والسبب الثاني لاعتماد عبارة "توريط" هي أنّ معظمهم كان مقيماً في "المنطقة الأخرى"، وبالتالي محسوباً عليها سياسياً، وكان هذا التحدي الأكبر، بل الدور الأبرز الذي لعبته بتواضع وقناعة ونجحت في تكريسه يومها، حيث تعمّدت أن يكون هؤلاء ضيوفي، ومن ثم أصدقائي، وبعضهم "زملائي" في الإذاعة، للتعرّف على رأيٍ آخر مغاير، قلما كان مسموعاً في "مقلبنا"، والأهم والأساس بالطبع هو موقعهم الفني الرائد ومكانتهم في ذاكرتنا الثقافية والفنية وفرادة حضورهم الذي لا يزال منتعشاً في قلوبنا ومنعشاً لذكرياتنا.. وأذكر من هؤلاء الراحلين إيلي شويري وإيلي صنيفر ووليم حسواني والياس ناصر وجوزف ناصيف الذين قدّموا برامج يومية وأسبوعية، وبعضها لأكثر من دورةٍ إذاعية، وكذلك الصديق الشاعر والرسام والكاتب المبدع جوزف أبي ضاهر، أطال الله بعمره ليغنينا بالمزيد من العطاءات.


لم تكن مهمّة التواصل مع الفنانين يومها بسهلةٍ، فلا موبايل، بل ولا حتى خطوط هاتفية أرضية مباشرة، بل سنترال يصلك من منطقة بسنترال في المنطقة الأخرى، بعد سعي حثيث للحصول على رقم الهاتف المنزليّ للضيف. وكانت للراحل إيلي شويري حصةٌ خاصة، إذ كنت أذهب بسيارتي إلى منزله في بزمار، حيث ينتظرني بكامل حيويته وأفكاره عند السادسة فجراً، لنكون في الإذاعة في بلدة "شانيه" قرب صوفر، عند السابعة صباحاً، حيث أنصرف أنا إلى عملي، ويقصد هو الأستوديو لتسجيل حلقات الأسبوع، ويمضي نصف نهاره بيننا ومعنا مستمعاً ومتابعاً ومراقباً ومقترحاً ومناقشاً وطارحاً آراءً فنية وسياسية، وراوياً العديد من القصص التي جناها خلال مشواره الفني، قبل أن أعود به إلى بزمار من جديد.


المشوار من بزمار حيث منزل إيلي شويري إلى شانيه حيث مبنى إذاعة "صوت الجبل"، ذهاباً وإياباً، كان بالنسبة إليّ متعةً لا تضاهيها متعة. فبرفقة هذا الرجل كنت أغرف قصصاً غير معروفة وأستمع إلى حكايات طريفة ومواقف من خلف الكواليس يرويها لي شخصٌ عايش الكبار، وبات له موقعه وأثره الكبيران، ناهيك عن ترديده أغنياتٍ بصوته الفريد، وإطلاعي على أعماله الجديدة قبل نشرها. كما كنت أتلقّن منه دروساً في فنّ الحياة، وأسس التعامل مع الآخرين، بل الأساس الأوحد والأعمق الذي كان ينتهجه: المحبّة والقلب المفتوح لاستقبال الجميع، والذهن المفتوح لمحاورة المناقضين.


هذه القيم عنده كانت تتجلّى خصوصاً في حديثه عن الأخوين رحباني والسيدة فيروز، كما ظهرت في الدور السامي الذي لعبه للتقريب بين سفيرتنا إلى النجوم والراحل منصور، بعد رحيل عاصي وبروز تباينات في البيت الداخلي، وكانت عنوان حديثه عن زملائه الفنانين بعباراتٍ لا أذكر أنّه أساء فيها إلى أحدهم، أو انتقده في الشخصيّ، أو أظهر غيرةً أو عدم ودٍّ تجاهه، كما تجلّت في سياق تحقيقٍ صحفيّ لي جَمَع العديد من الفنانين الذين عملوا في المسرح الرحباني، لسؤالهم عن الدور الذي لعبوه فيه، وما اكتسبوه من تجربتهم هذه، وما خسروه بسببها، فكانت له شهادة حب ووفاء واعتزاز بكل مسيرته في هذا المجال.


كان إيلي شويري مشاكساً، ولكن برقيّ، رافضاً للواقع، ولكن بقراءةٍ موضوعية، مثقفاً وحالماً ومجتهداً، والأهم أنه كان لبنانياً في الصميم، وكانت له في برنامجه عبر "صوت الجبل" مواقف جريئة، فيها انتقادٌ للواقع ورفضٌ للتسليم به، ولكن بحنكة وذكاء، وبمواربةٍ تنمّ عن خبرةٍ في الحياة والسياسة وزواريبها، وحذرٍ من التبعات التي يمكن أن تطال المعترضين على الأمر الواقع. باختصار، كان هو إيلي شويري الذي كرّس حضوره في العديد من الأدوار والشخصيات البارزة في المسرح الرحباني، وغرس بصمته الفنية الخاصة، كلمات وألحاناً وأداءً.


ينضمّ إيلي شويري إلى عشرات المبدعين الذين يغادروننا الواحد تلو الآخر، كأنما يسدلون الستارة ليس على آخر فصول حياتهم فحسب، بل أيضاً على ذلك الجانب المضيء في حياتنا، أو القبس المتبقي منه.

بسام سامي ضو

بسام سامي ضو

كاتب وصحافي لبناني مقيم في دبي