لا تزال عملية التحنيط وحفظ جثامين المصريين القدماء تلقي بأسرار جديدة رغم مرور آلاف السنوات على قيام المصريين القدماء بتلك العملية المعقدة، التي تثير فضول العلماء والباحثين للغوص في أسرارها وكيفية إتمامها.
ومؤخرا توصل فريق بحثي إلى كشف المزيد من تلك الأسرار الهامة حول عملية تحنيط الجثامين المصرية القديمة وكيفيتها من خلال تحليل مواد عثر عليها في إحدى المقابر داخل ورشة تحنيط قديمة اكتشفت قرب منطقة سقارة في مصر، ووصف الدكتور محمد إبراهيم أحد أعضاء الفريق البحثي اكتشاف ورشة التحنيط والمقبرة ونتائج البحث وما توصل له بأنه "أحد أهم 10 اكتشافات في الألفية الجديدة".
7 خلطات للتحنيط في 31 إناء
اعتقد المصري القديم أن عملية إحياء الجسد في العالم الآخر بعد الوفاة تتوقف على مدى سلامة الجسد ولذلك أَولى عملية التحنيط أهمية وقداسة، إضافة إلى فرضه سرية شديدة على كيفية حفظ الجسد من خلال عملية التحنيط والمواد المستخدمة فيها، لذلك تعد نتائج الدراسة الأخيرة التي قام بها فريق علمي مصري أجنبي مشترك على درجة كبيرة من الأهمية ونشرت نتائجها في مجلة "نيتشر" Nature العلمية الشهيرة.
وفي حديث مع موقع "الحرة"، قال الدكتور إبراهيم، الذي يعمل مشرفا بمختبر الكروماتوغرافي في شبكة المعامل المركزية والتميز بالمركز القومي للبحوث في مصر حيث تم تحليل المواد المكتشفة في ورشة التحنيط إن "الأواني التي تم إجراء التحليل لمحتوياتها عددها 31.. احتوت موادا من الزيوت والمواد التي استخدمت في عمليات التحنيط، وشملت سبعة أنواع من الخلطات الخاصة بعملية التحنيط وكل منها كان مكتوبا عليه باللغة الهيروغليفية العضو الجسدي الذي كانت المادة الموجودة في الإناء تستخدم في تحنيطه".
وأوضح "فمثلا إحدى الأواني كان مكتوب عليها إنها تستخدم في تحنيط الرأس وأخرى الأحشاء وثالثة كانت تستخدم في طلاء الكتان الذي تلف به الجثامين والمستخدم في عمليات التحنيط ولذلك أظهرت التحاليل الخاصة بكل إناء أن المادة التي بداخله تستخدم، وأن كل عضو له خلطة متخصصة من الزيوت والراتنجات والدهون النباتية والحيوانية وليس خلطة واحدة وهذا أمر يدل على أن المصري القديم كان على علم بعلوم الكائنات الدقيقة التى تسبب تعفن الجسد وكذلك علم التشريح".
ورشة تحت الأرض وغرف على عمق 30 مترا
وتقع ورشة التحنيط التي عثر فيها على المواد المستخدمة في حفظ الجسد على بعد 13 مترا من سطح الأرض والمقبرة على بعد 30 مترا وتم اكتشافها، في عام 2019، بواسطة فريق علمي برئاسة الأثري المصري الكبير، رمضان البدري حسين، وهو مكتشف الورشة وعضو الفريق الذي توصل إلى نتائج الدراسة الأخيرة لكنه توفي قبل إعلانها.
وأشار إبراهيم إلى أنه بعد اكتشاف الورشة قرر حسين أن يحلل محتويات الأواني في مصر داخل معامل المركز القومي للبحوث.
وأوضحت نتائج التحليل أن بعض المواد لا تتواجد في البيئة المصرية، لذلك كان المصري القديم يستجلبها من خارج البلاد مثل زيت الأرز وبعض أنواع الراتينجات الصنوبرية والقطران، لاستخدامها في عملية التحنيط وحفظ الجثامين.
ويشير إبراهيم إلى أن "هذا يؤكد وجود اقتصاديات خاصة بعملية التحنيط لأنه يعتبر 'بيزنس' حظي بأهمية كبيرة في الدولة المصرية القديمة، على الرغم من توثيق الشبكات التجارية والتبادلات التجارية بين الثقافات القديمة لمناطق حوض البحر الأبيض المتوسط".
وأضاف "إلا أن ورشة سقارة قدمت أدلة إضافية على التجارة لمسافات عبر طرق التجارة الهندية المتوسطية النابضة بالحياة، والتي يبدو أنها كانت متواجدة منذ الألفية الثانية قبل الميلاد، وكانت عملية التحنيط للشخصيات الكبرى والهامة مختلفة من حيث كفاءة المحنطين وجودة المواد المستخدمة في التحنيط ومدة التحنيط".
ونوه إلى "أن الفقراء أيضا كان يتم تحنيط جثامينهم، لكن كفاءة عملية الحفظ بالنسبة لهم كانت أقل من الملوك والكهنة وغيرهم من الشخصيات الكبرى".
وعن باقي محتويات ورشة التحنيط قال إبراهيم: "ما عملنا عليه في الدراسة الأخيرة تضمن تحليل مواد عثر عليها في 31 إناء فقط، في حين أن الورشة تضم أكثر من 121 إناء متنوعا سوف يتم استكمال العمل عليها وتحليل محتويات للوصول إلى نتائج أكثر تتيح مزيدا من الأسرار الخاصة بالتحنيط وحفظ المومياوات عند قدماء المصريين، كما يتوقع أن تكون هناك بئرا جديدا لم تكتشف بعد في المنطقة التي تم اكتشاف ورشة التحنيط فيها".
اقتصاديات التحنيط عند المصري القديم
وحول أهمية ما توصلت إليه الدراسة قال الدكتور إبراهيم بدر، أستاذ الترميم بكلية الآثار، إن "الوصول لنتائج مؤكدة بشأن تحديد المواد المستخدمة في حفظ وتحنيط كل جزء من الجسد أمر هام للغاية وبمثابة كشف كبير".
وأوضح لموقع "الحرة" أنه "حتى عام 1945 كانت عملية تحليل وفحص عمليات التحنيط تعتمد على المشاهدات البصرية للمومياوات، لكن بعد ذلك أصبحت هناك عمليات تحليل تعزز ما تتوصل إليه النتائج الخاصة بعمليات التحنيط من خلال المشاهدات ومع التقدم العلمي هناك دائما معلومات جديدة تتيحها الأبحاث والدراسات العلمية".
واستدرك "لكن الدراسة الأخيرة على وجه التحديد تكمن أهميتها في تحليل المواد منسوبة للأجزاء المستخدمة في تحنيطها وفق المكتوب على الآنية المكتشفة في ورشة التحنيط ونسبة كل منها لجزء من أجزاء الجسد".
واعتبر أن "أنواع المواد المستخدمة في التحنيط والمتواجدة في كل إناء من الآنية الخاصة بالورشة موضوع الفحص والدراسة تساهم في فهم الطبيعة والمكانة الاجتماعية والدينية لأصحاب المقابر الأثرية من الشخصيات القديمة، خاصة الملوك والكهنة، لأن المعروف علميا أن كل شخصية كانت تجلب المواد التي سيتم استخدامها في تحنيط جثمانها ولذلك هناك تباين في طبيعة المواد المستخدمة في التحنيط فبعضها كانت زيوتا خالصة وبعضها كانت بها شوائب وبعضها مثلا كانت تحتوى على زيوت الأرز وبعضها كانت خليطا من زيوت الأرز والفجل الذي كان يتم خلط زيت الأرز به لزيادة الكميات واستخدامها مع أكثر من جثمان".
وأكد على أن "طبيعة المواد أيضا تؤكد على أن اقتصاديات عملية التحنيط كانت على درجة كبيرة من الأهمية سواء فيما يتعلق بجودة المواد أو بكفاءة المحنطين مشيرا إلى أن إحدى المومياوات الخاصة بالأسرة 21 كانت لكاهن أحضر أفضل المواد لتحنيط جثمانه وأفضل المحنطين ولذلك كانت المومياء الخاصة به من أفضل المومياوات التي تم تحنيطها على الإطلاق رغم مرور آلاف السنين على عملية حفظها".
وتوقع إبراهيم أن استكمال فحص وتحليل المواد المكتشفة في ورشة التحنيط "سيعطي فهما أوسع وأهم لعملية التحنيط وحفظ الجثامين لدى المصريين القدماء خاصة باستخدام الدراسات المقارنة للمواد المستخدمة والمعثور عليها في آنية ورشة التحنيط مع العبارات المكتوبة على الآنية".
موقع قناة "الحرة"