من غرائب الأمور وعجائب الدهور، أننا نستقبل في لبنان المئوية الثانية لميلاد هذا "الوطن" المؤجل أو المعلّق، ما بين الوجود والعدم.
فيما حكام طبقته السياسية الفاسدة تتلهى بالكذب على ذاتها وعلى الناس. وها هم يحتفلون اليوم بكل وقاحة بعيد استقلال موهوم ومزعوم، وقد دُمر البلد آلاف المرات، في كل هذه الحروب التي لا تنتهي، وصولاً الى انفجار المرفأ "النووي"، بفعل نيزك سماوي مجهول، لكنه على الأرجح المؤكد أنه المسؤول الأوحد عن تدمير ربع العاصمة..
لبنان هذا، يعود بعد قرن من الزمن تقريبًا للمربع الاول، لكن مع فارق أن حلم أو جل طموح أكثر أهله الباقين فيه، بات أن يرحلوا عنه.
وسقوط نغمات "العيش المشترك" وحفلات التكاذب الاجتماعي والمناسبات الوطنية الشكلية والدجل اللبناني حول الصيغة الفريدة ولبنان "قطعة السما".
كل ذلك يهوي دفعة واحدة ويُطرح "الكيان" الوطن ومصيره على طاولة البحث عن مصيره ومستقبله من جديد كلّ عقدين من الزمن أو أكثر بقليل هكذا كانت الأمور غداة أي استحقاق سياسي أو مصيري.
فترانا نعود في كل فينة أو أزمة متجددة الى الأسئلة المصيرية، التكوينية الأولى إياها؛ نكون أو لا نكون؟! أو نكون كلنا كما نحن عليه اليوم، أم يكون كلٌّ منا لوحده؟! وهل ذلك ممكن؟ وكيف؟ أو أقلها اسئلة كيانية، أو ميثاقية من قبيل هل مات الطائف؟ هل نحن بحاجة او بصدد طائف جديد؟! وهل ذلك ممكن دون حرب أهلية صغيرة أو كبيرة، تسبقه وتمهد له؟! أو على الأقل بروفة لما قد تكون عليه إذا ما حصلت، تكون كافية لتُحدث التغيير المطلوب؟! أليست هذه الهزات المتتالية والتي يتم لجمها هي عبارة عن حرب أهلية مدروسة ومحسوبة الحدود والأحجام؟
ما هو هذا الوطن الذي وصلنا اليه بعد مئة عام من هذا الاجتماع؟! ونحن لا نزال لا نتفق حتى على شرعية ولادته أو نشأته، فهو وفق البعض وطن صنعه الاستعمار ووفق البعض الاخر وطن اصيل عميق في التاريخ والجذور والثقافة وما فعله الانتداب ليس سوى المساعدة في الاعلان عنه. حيث حال وجود العثماني زهاء أربعة قرون في بلادنا دون تبلور ونشوء هذا الوطن. على الرغم من الأوضاع الخاصة التي كانت تمتاز بها بعض الإمارات أو الولايات (متصرفية وقائمقامية جبل لبنان وغيرهما..).
وربّ عودةً سريعة الى التاريخ الذي تشكل فيه هذا الكيان تفيد في إنعاش الذاكرة وترشيد أو جعل طريقة النظر الى واقع الحال الذي انتهينا اليه بعد مرور كل هذا الوقت، أكثر منطقية وعقلانية.
بدايةً كان مسيحيو جبل لبنان بغالبيتهم يتطلعون ناحية الغرب وأوروبا عموماً وفرنسا بشكلٍ خاص، فيما كان أهل الساحل من الغالبية المسلمة تنحو بوجهتها ووجدانها القومي والإسلامي ناحية الشرق، معبراً عنه بالشام والمحيط العربي عموماً. على الأقل هذه هي الصيغة المتداولة لكل فريق عن نفسه وصورته في أدبياته.
كذلك كان أهل الأقضية الأربعة (بعلبك، البقاع، حاصبيا، راشيا)، يتطلعون الى الداخل الى الامتداد العربي، والدولة العربية الموؤودة في مهدها، (الشريف حسين ومن ثم دولة ابنه فيصل في الشام والعراق..). هذه الأقضية التي ألحقها الجنرال غورو بلبنان الكبير بعد معركة ميسلون في (24 تموز 1920)، بعد أن كانت في نطاق سوريا.
وقد كان جبل لبنان عبارةً عن سنجق يتمتع باستقلال خاص وذلك حتى عام 1918. وكان يضم آنذاك كل من الأقضية التالية؛ الكورة، البترون، كسروان، المتن، جبيل، زحلة بالإضافة لمديرتي دير القمر والهرمل. أمّا مدينة بيروت فقد ضمها المفوض السامي الى جبل لبنان، بعد احتلال سورية من قبل الفرنسيين.
في حين راح أهل جبل عامل يؤسسون دخولهم وطريقة انضوائهم في الكيان الوليد بمؤتمر وادي الحجير (24/نيسان 1920)، بقيادة الإمام عبد الحسين شرف الدين. الذي استحث الهمم ودعا الى مقارعة الانتداب والسعي نحو الوحدة العربية والآخاء مع النصارى الشركاء في التاريخ والجغرافيا..
في الواقع تعود نشأة لبنان على ما هو عليه اليوم، الى رغبة لدى ما يمكن إطلاق اسم الآباء المؤسسون عليهم، وتحديداُ البطريرك الماروني حويك الذي سعى الى توسعة أراضي لبنان وضم مناطق وأقضية أخرى اليه، وتجلّى ذلك في رحلته الى باريس في أثناء انعقاد مؤتمر الصلح، وقد حصل بالفعل على وعد من كليمنصو رئيس الحكومة الفرنسية آنذاك في (10 ت2 1919). يبدو أن المنطقة تشكلت من جملة وعود (بلفور، كليمنصو..). وبالفعل في (31آب 1920)، أعلن الجنرال غورو قيام دولة لبنان الكبير. وأبرق حينها الجنرال غورو الى حكومة دمشق يبلغها بحدود دولة لبنان الكبير أي الحدود التي نعرفها حالياً. بالطبع احتدت الحكومة السورية بداية على ما أسمته سلخ الأقضية الأربعة عن أراضيها. كما أن الدولة العتيدة قد ضمت اليها مرفأي بيروت وطرابلس، اللذين كانا المنفذين اللذين تمر منهما جميع تجارة سوريا البحرية. وقد أضحت الدولة الوليدة ضعفي مساحة سنجق جبل لبنان، كما دخل في حدودها عدد كبير من السكان المسلمين، الأمر الذي حوّل غالبية العنصر المسيحي الى أغلبية طفيفة، وقد اختل هذا الفارق أيضاً مع الوقت. وتشكك مصادر معنية بتاريخ سوريا، بصحة العرائض التي حملها البطريرك حويك معه الى مؤتمر الصلح، وهي موقعة من سكان من الأقضية الأربعة التي طالب الحويك بألحاقهم بالدولة العتيدة، وذلك لحاجة الدولة الوليدة للأراضي الزراعية وللمنافذ البحرية، ويقوم اعتراضهم على أنّ هذه العرائض لا تمثل حقيقةً رأي أغلبية السكان الفعلية، وأن هذه العرائض أم أنه تم التلاعب بتواقيعها حيث يتكرر الاسم الواحد عدة مرات، أو أنها جمعت من بعض القرى المسيحية القليلة الموجودة في هذه الأقضية. ولم تشتمل على رأي السكان الآخرين اللذين يشكلون أكثرية في تلك المناطق. ويدللون على ذلك الأمر بالرجوع لوثائق الخارجية الفرنسية وغيرها. ما يهمنا الآن من اثارة هذه النقطة كونها إضافة الى قضية المنافذ البحرية قد جعلت الداخل السوري خاضعاً بشكل ما لإرادة أو رغبة الإدارة الناشئة في الدولة العتيدة، الأمر الذي أضعف الداخل السوري وخلق قلقاً وتوجساً وجودياً سوف يستمر الى أيامنا هذه وسوف يشكل الهاجس الأساسي لكل حاكم في سوريا من أن كل المؤامرات المحتملة أو حتى تلك المتخيلة لا بد أو أنها حتماً تحاك في بيروت، التي باتت تُعرف بالخاصرة الرخوة لدمشق.. فإذن نحن أمام المفصل الأول من ولادة المأساة أو المعضلة السورية/اللبنانية التي تولّدت من قيامة لبنان وسلخ الأقضية الأربعة عن سوريا. أمّا المفصل الثاني أو التناقض الثاني فهو في بنية هذا الكيان الناشئ نفسه، وقد تكون من رغبة المارونية السياسية آنذاك لتوسعة الكيان من جهة، وحاجة هذا الكيان الموضوعية والطبيعية لأراضٍ صالحة للزراعة ولمنافذ بحرية. لكن هذه التوسعة لن تكون دون ثمن، أي أن هذه الأراضي ليست خالية من السكان. الأمر الذي سوف يخل بالحلم أو الطموح بالمحافظة على الغلبة المسيحية في الكيان العتيد، وهكذا ولدت المأساة المارونية او الشعور برهاب الأقليات المتمثل بالخوف من الانغماس أو الذوبان والتحلل في المحيط الأوسع المختلف.
ويبدو أنّ هذه المعضلة تجلّت وبرزت بعد اتضاح الصورة في تعبير لقوى الممثلة لغالبية سكان الأقضية الملحقة بامتدادها ورغبتها في؛ إمّا الوحدة والعودة الى الحضن السوري الذي لم يكن أيضاً هو بدوره مبلوراً بالصورة التي نعرفها اليوم، أو في الحالة التي سيكونون فيها في الكيان الجديد، فإنهم لن يقبلوا أن يكون هذا الوطن الجديد معادياً أو مصدر تهديد لسوريا. ولهذا يتوجب بالمقابل على المسيحيين ألا يكونوا كذلك مواليين لفرنسا موالاة كاملة، وبرأيي كانت هذه هي البذرة الأولى لمقولة خصوصية لبنان التي غالباً ما نسمعها من هنا وهناك.
وقد كانت هذه رؤية البطريرك الحويك على الأغلب، والتي نجحت في الترويج لحكاية لبنان ورسالته واصالته كمنارة في الشرق وكونه صلة وصل او جسر بين الشرق والغرب. وبالتالي نشوء فكرة الحياد اللبناني، التي تعود الى السطح هذه الأيام كما في كل مرة كلما "دق البوز بالجرة" كما يقول المثل الشعبي.
فكانت "السقيفة" اللبنانية أي الصيغة الفريدة المؤلفة من سالبتين، لا شرق ولا غرب، والتي أنتجت هذا الوطن الهجين، الذي اهتزَّ عدة مرات منذ العام 1958 عندما نزل المارينز على شواطئ بيروت. من ثمّ في نهاية الستينات عند دخول فصائل "المقاومة" الفلسطينية وبداية الانقسام الوطني حولها، الى أن انفجر الوضع في العام، 1975، حرباً أهليةً ضروس استمرت الى العام 1990. حرباً احرقت الاخضر واليابس وقضت على ازدهار وانتعاش اقتصادي، كنا نُحسد عليه. دُمرت بيروت، عروسة المدن وانقسمت الى شطرين متحاربين. ولف الدمار والآلام الكثير من القرى والمدن ولم يبقَ جيش او قوة في العالم الاّ وكان له رأي ودور وتدخل فيها.
حرب كلفت لبنان عشرات آلاف الضحايا والمفقودين والجرحى. ولم تنته عمليًا الاً بعد أن تقاتلت كل ميليشيات الطوائف المسلحة مع بعضها البعض. فكان اتفاق الطائف وحل الميليشيات. هذه الحرب التي يتجاوزها اللبنانيون ببضعة كلمات كالقول "تنذكر وما تنعاد"، ويتجنبون الحديث عنها، كأنها تابو محرم، أو كأنهما بالقفز عنها وعن مآسيها يتجاوزون مطبّات أو إمكانيات الوقوع فيها او العودة اليها مجدداً. وهذا خطأ تاريخي كبير، وهي عادةً ما توجز في كتب التاريخ المدرسية، بجملة واحدة، مفادها، أنّ لبنان عرف من سنة كذا ولغاية سنة حرباً أهلية أليمة، أجمع اللبنانيون على تجاوزها وعدم العودة اليها. هكذا كأنها صفحة في كتاب وطويناها، عوضاً عن تبيان اسبابها وأهوالها ونتائجها، لكي تتعرف الأجيال الناشئة على الويلات والمآسي التي عايشها أهلهم وأجدادهم، ولكي يدرسوها بمنهج عصري نقدي وديمقراطي. وهذا ما يجري التشديد عليه في المانيا على سبيل المثال كبلد شهد حربين عالميتين. لكن يبقى الخوف على الأرجح لدى القيمين على الكتب المدرسية والتربوية هو أن تؤدي اثارة هذه الأمور الى انبعاث الخلافات والأحقاد مجدداً بين الطلاب وما يفترض ذلك من توترات واثارةً للأشجان. خاصة على ضوء عدم اتفاق أهل التاريخ وكتبَتُه في لبنان على صياغة صيغة موحدة لتاريخ لبنان. وهذه النقطة بالذات كانت في صلب الحرب الأهلية وجرت الأمور بعد الطائف أن تبقى لكل طائفة أو فريق سياسي الرواية التاريخية التي تناسبه أو التي يبناها ويراها هي الرواية الحقة والصحيحة لنشأة وتاريخ هذا البلد. تُدرسه في مدارسها الطائفية، وهذا ايضاً من معيقات قيامة لبنان وانصهار أهله في بوتقة مجتمعية واحدة. وثمة في هذا السياق دراسات واطروحات كثيرة.
حتى أنّ المرء بات، لكثرة التشعبات والتغييرات والاحتلالات والتدخلات الخارجية، التي شهدها هذا البلد، يجرؤ على طرح السؤال المؤلم التالي، هل لا يزال لبنان بعد مئة عامٍ من تأسيسه وقرابة السبعين عاماً من اعلان استقلاله رسمياً، هل لا يزال هذا الكيان موجوداً بالفعل!؟ أي بعد احتلال "إسرائيل" لقسمٍ من الجنوب (1978-2000)، ووجود الجيش السوري، (1975-2005) كذلك في مناطق كثيرة من لبنان، والانتشار المسلح للميليشيات الطائفية وسيطرتها على مناطق واسعة وانقسام هذه المناطق طيلة فترة الحرب الأهلية (1975-1990)، واستمرار بعضها الى أيامنا هذه. مثال الإدارة المدنية في الجبل (الحزب الاشتراكي/الدروز استغلال المنفذ البحري في الجية)، (حركة أمل/الشيعة، المنافذ البحرية خلدة وصور.) كذلك المناطق المسيحية القوات/الكتائب مرافئ بيروت، جونية). وعدم بسط الدولة ليدها على كثير من الأراضي اللبنانية.. وانتشار السلاح المتفلت والقوى المسلحة في أوقاتنا الراهنة.
وإذا ما كان هذا هو الحال إبّان الحرب الأهلية، فإنّ روّاد هذه الحرب لا ينفكون اليوم يلوحون بالعودة الى الانعزال وأحلام القوقعة والتقسيم، والقول بأننا في وضع يشبه ما كان عليه الحال في العام 1975. أمّا كلام البطريرك الماروني الراعي، من أنّ مقولة الحياد حمت لبنان وجلبت له الازدهار وأنه كلما ابتعد عن هذه القاعدة اختلّ التوازن واصيبت البلاد بالنكسات والانقسامات. فهو لخير تذكير بالشروط أو الصيغة التي قام على أساسها لبنان. وهو كلام يمثل صمام أمان للبنان يصونه ويمنعه من الانجرار وراء الأحلاف والمطامع الإقليمية ويدخله في أتون الصراع الملتهب في المحيط من حولنا.
هذا فيما يتمسك حَمَلَةُ السلاح (من غير القوى الشرعية المسلحة)، به كحامٍ للبنان من أخطار متنوعة، إسرائيلية وإرهابية متطرفة، أي ما يتعدّى أصل ومدى وجوده واستعماله الأصلي، ليصل خارج الكيان والحدود. مستفيداً بشكل متبادل من غطاء شريكه المسيحي، الذي لم يُفصح حقيقة التفاهم الذي وقع في مار مخايل، هل نجح فعلاً في لبننة القناعات العابرة للأقاليم والولاءات العابرة للمناطق والهوية الوطنية. أسئلة لم نرَ أجوبة واضحة عليها من جميع الأحزاب السياسية التي شاركت في الحرب وقادت حفلة النهب الإفساد المالي والاجتماعي فيما بعد الحرب وأوصلت البلاد الى الإفلاس والإنهيار.
لكن اليوم الصورة تبدو مختلفة بدرجة كبيرة عن تلك الأحوال التي كانت سائدة قبيل اندلاع الحرب الأهلية، اذ كانت المارونية السياسية هي المسيطرة على البلد آنذاك وكان في المقابل المقاومة الفلسطينية المسلحة، وهي من خارج النسيج الوطني اللبناني. وكانت الشعارات المرفوعة آنذاك؛ الغرباء وحرب الآخرين، التي كانت تشي بأن مجرد ابعاد هؤلاء الغرباء سوف نعود للصفاء والنقاء الطائفي أو المناطقي، وهي أمراض ساعدت في ظهور نعرات مقابلة ولعبت دوراً سلبياً في تأجيج الحرب وأسست للتفرقة الأهلية.
أمّا اليوم فالوضع القائم هو سيطرة الشيعية السياسية، المتحالفة مع تيار كبير من المسيحيين (تحالف أقليات، في مقابل الطائفة الثالثة، التي تشكل امتداداً للمحيط الأكثري المتجانس)، والتي تشكل حالة المقاومة المسلحة هي الرافعة لأي تغيير جذري أو بنيوي في طبيعة الكيان ومستقبله، إذا ما شعروا بأي تهديدٍ وجودي حقيقي. وهذا ما نستشفه من تسريبات خافتة وغير مباشرة من قبل هذا الفريق، حول إمكانية الذهاب في هذا الاتجاه الجذري أو القيصري، والذي قد يكون من سياقات ما يدور في المنطقة والإقليم، من تشكيلات ما بعد سايكس- بيكو. وعليه يكون التلميح المبطن من أنّ التغييرات التي نشأت عن الحرب السورية وتدخل أطراف لبنانية فيها، وما نتج عنها من تغييرات جيواستراتيجية وديمغرافية على أرض الواقع، تدفع بهذه القوى للترويج لبعض الفرضيات حول لبنان مفادها؛ عدم إمكانية بقاء ووجود هذا الوطن في الجغرافيا الحالية بدون وجود كيان مماثل أو مشابه في الإقليم يردفه ويتناغم معه. فإن لم تتحقق الأولى فإنّ شرط وجود وبقاء هذا الكيان كوطن، غير ممكنة من دون صيغة حكم جديدة تعبر عن البنية والتغييرات والمستجدات الاجتماعية والسياسية التي شهدها المجتمع اللبناني وتتناغم بالتالي مع صيغ او اشكال الحكم القائمة في الإقليم أي في كلٍّ من سوريا والعراق. أي بلغة مبسطة؛ طائف جديد، يُفضي الى المثالثة، بعد أن تآكل حلم البطريك الحويك الى حافة الثلث وربما أقل وليس المعطّل. وهذا على ما يبدو ما يُراد له أن ينتقل الى حيز النقاشات العامة ووسائل التواصل الاجتماعي، وذلك لتهيئة الأرضية المناسبة لتقبل مثل هكذا أفكار، سوف تأتي بمثابة جاىزة ترضية للأدوار، التي أُديت بهذا السلاح في المساهمة في تحرير الأرض وفي ما يسمونه الدفاع عن الحدود بوجه الأرهابيين، وربما يأتي كل ذلك من بوابة ترسيم الحدود، لأن هكذا تغيير أو تعديل للدستور القائم أي الطائف، قد كلّف حرباً أهلية استمرت خمسة عشر عاماً، غير ممكن بمجهودٍ محلي خالص، ودونه ربما حرب جديدة! فإذن مثل هكذا تغيير لن يكون ممكنًا الاً من خلال تسوية دولية/إقليمية تفرض نتيجتها على لبنان، وعنوان صيغتها المقبلة؛ المثالثة. التي لن تكون كذلك حلاْ مستديماً وأنما تخميراً ووقوداً لأزمة كيانية/ وجودية مقبلة، ما لم يُصار الى تطبيق اتفاق الطائف، الذي شكل أعلى سقف ممكن من التغيير المقبول من الجميع، بعد حرب طاحنة، وقد شكل المخرج الحقيقي لأزمات لبنان المستعصية.
حيث أنّ التجارب ومسارات السياسة حتى في الأوقات العصيبة، أثبتت أنّ عملية انشاء هذا الكيان/الوطن لم تكن بشكل تعسفي بالكامل، وأنّ بعض التداخلات الحدودية الطفيفة موجودة في كثير من البلدان ذات التداخل الجغرافي. وقد تجلّى ذلك في أوج الحرب الأهلية والانقسامات المناطقية والطائفية، فإننا لم نشهد حالات انفصال جذري وفعلي أو نزوع سكاني أو سياسي للوحدة مع سوريا حتى في الأقضية الأربعة السابقة الذكر، والتي كان الجيش السوري من غريب المصادفات ينتشر فيها بقوة منذ اندلاع الحرب الأهلية ولغاية خروجها من لبنان رسمياً. فإننا نلاحظ أن النزوع العام والشعور الوجداني لدى غالبية السكان في شتى المناطق، خاصة في تلك التي كانت واقعة في مناطق وجود أو نفوذ الجيش السوري، كان نحو "الدولة اللبنانية". وجل العتب من قبل الأهالي كان ينصب على غيابها وأكبر المطالب هو بانتشارها وحضورها، ما يؤكد أن مفهوم الدولة والشعور به كان موجوداً وراسخاً وقائماً حتى في أوج الحرب الأهلية. وأن سبب بعض مظاهر الاعتداء على مظاهر الدولة عائد بدرجة كبيرة لإهمال الدولة في الإنماء، واقتصاره على المدن الرئيسية واهماله للأطراف.
كما أن التاريخ يعطينا أمثلة وافية عن نشوء الدول الحدية في اوروبا وآسيا الوسطى والبلقان، فأغلب تلك الدول لم تلد هكذا دفعة واحدة وإنما مرّت في مخاض عسير وطويل قبل أن تتشكل هويتها الوطنية والعامة وحدودها، وإن كانت قد مضت فيما بعد لتجاوز هذه الحدود نحو الإنفتاح والتكامل والتعاون، كالاتحاد الأوروبي مثالاً، الذي على الرغم من تصاعد الأحزاب الشعبوية القومية، يبقى النموذج الأوروبي مثالاً ناجحاً في شتى الصعد الإنسانية والاقتصادية وأحوال المعيشة والتنمية.
ولا يبدو أنّ ثمة مخرجاً أمام لبنان سوى قيام دولة مدنية والغاء الطائفية من النصوص والنفوس، نحو بلورة هوية وطنية جامعة وعابرة للطوائف، تعلي من شأن الوطن الذي أخذ مخاضاً طويلا ودفع الأثمان الذكية من أجل تشكيل هذه الهوية التي اعتقد أنّ هذا الشعب قد استحقها، وقد تمثل ذلك في الحراك المطلبي أو ما عرف بثورة 17تشرين، حيث تجلت ملامح وطنية جامعة، لدى هذه الأجيال الناشئة، يمكن أن تؤسس لبلورة وعي جمعي وطني يؤسس لولادة وطن يليق بها، وتحدث التغيير المنشود.