في وقت كانت قد قرعت فيه طبول الحرب في اوكرانيا، كان هناك منخفض جوي يلوح في الأفق في فلسطين، والسماء ملبدة بالسحب والغيوم وكان الهواء شديدا يزمجر في ارجاء مدينتي رام الله والبيره التي انطلق منها اربعون مشَاءا من فريق "امشي تعرف على بلدك" وشدوا الرحال نحو الأغوار الوسطى الفلسطينية، وما أن وصل الفريق إلى بلدة "الجفتلك" وهي بلدة فلسطينية يصل عدد سكانها إلى نحو ستة آلاف نسمة وتقع إلى الشمال من مدينة أريحا، والمحتلة منذ العام 1967، حتى رأينا الفرق الكبير بين المدينة التي قدمنا منها وبين أوسع منطقة في الأغوار، وهي سلة غذاء الفلسطينيين وجنتهم، فالتهميش وغياب الخدمات واضح أمامك بلا شرح، إلى جانب حجم المستوطنات التي تحيط بالمنطقة وقوات الاحتلال التي لا تفارق شارع 90 الذي يشق البلدة ويقسمها قسمين إضافة الى الحواجز العسكرية التي تقيمها قوات الاحتلال وأشهرها أو لنَقُل أسوأها حاجز الحمرا وفصايل، والتي يصفها الفلسطينيون بحواجز الموت .
وتدعو غرابة اسم "الجفتلك" البلدة الواقعة في الأغوار الوسطى، الى استفسار الزائر عن معنى التسمية، وبسؤال أهالي البلدة، يجيبون بلا تردد: "اسم تركي لسجن عثماني شهير"، ومع أن "الجفتلك" بالتركية تعني المزرعة، إلا أن اهالي البلدة الذين يعملون في المعظم بالزراعة يربطون الإسم بالسجن، والذي شيد وأصبح مهجوراً وموحشاً بعد عام 67 بسبب منع الاحتلال أي سيطرة فلسطينية عليه.
في نطاق بضع كيلو مترات من"الجفتلك" اقيمت مستوطنات إسرائيلية منها " مساءة والحمرا وأرجمان" وتتعرض "الجفتلك" بشكلٍ مستمر لمصادرة أراضيها ومحاولات لنقل السكان، ومضايقات ممنهجة كالإعتقال لأهالي القرية والمتضامنيين الدوليين والاعتداء على الممتلكات من قبل المستوطنين الإسرائيليين، بالإضافة إلى عقبات تعجيزية توضع أمام النشاط الحضري والزراعي مثل حفر الآبار وتشييد المنازل أو إضافة الأبنية وإقامة حفر لجمع المياه.
وبعد نحو ساعة، وصل فريق "امشي تعرف على بلدك" الى منطقة الأغوار الوسطى الفلسطينية شمال مدينة أريحا، وكان الصباح مشرقا ساحرا، يغري بالتنزه فِي أحضان الطبيعة الفتانة بجمالها، الأخاذة بفنها، كانت الأرض هناك فائقة السحر مع نبات الجرجير البري وأزهاره الصفراء، وقد غمرتها شمس دافئة ترسل شعاعها الذهبي وسط السكون.
وكان فريق "امشي تعرف على بلدك" قد بدأ مساره الصباحي يوم الجمعة الموافق 25.2.2022 في تسلق جبال "الجفتلك" نحو محمية " راس خروبه " في إطار من المغامرات الصعبة والشيّقة في ذات الوقت التي ينظمها الفريق اسبوعيا، حيثُ تطلب منا مجهودا جسديا كبيرا صعود قمم جبال الجفتلك، وشعرنا بمُتعة حقيقية لقيامنا برياضةٍ مُختلفة، وكلما تخطينا قمة ما، ازدادت رغبتنا نحو اجتياز أُخرى.
فحركات الصعود التي قام بها فريق الْمَشَّائِيـــنَ أثناء تسلقنا الجبال حفزت بالضرورة مجرى الدم في اجسادنا، الأمر الذي حسن فينا الصحة بصورة عامة، وحسن عمل أعضاء الأجهزة الحيوية فينا وكان تحرك اجسادنا يتمّ بخفةٍ كبيرة كخفة الغزلان، بالتزامن مع التفكير بكيفية التحرك من صخرة الى اخرى وبين الأعشاب البرية التي كست المكان بمنظر جميل رائع .
كنا نسابق الزمن في موعد الوصول الى اعالي القمم، ونفكر في الفترة الزمنية المُستغرقة أثناء الصعود، الأمر الذي يتطلب الاتزان بين المهارات الجسدية والعقلية، من أجل الوصول إلى الغاية المطلوبة، وكان يستحضرنا دوما خلال الصعود الى الأعالي قول الشاعر أبو القاسم الشابي ( وَمَنْ لا يُحِبّ صُعُودَ الجِبَالِ ... يَعِشْ أَبَدَ الدَّهْرِ بَيْنَ الحُفَر).
وبعد نحو ساعتين من الصعود المتواصل للفريق، بدت لنا الأغوار الفلسطينية والأردنية الممتدة على مد البصر، والتي تتضمن المزارع والبيوت البلاستيكية، وقد نبتت في الأرض أنواع من العشب والزهر، ما لا يبلغ إحصاؤه، وعلى مرامي النظر شاهدنا مزارع اشجار النخيل الباسقة الشامخة وقد بدا النسيم العليل يهز أوراقها، شاهدنا من علو الأراضي واسعة الأرجاء تملؤها خضرة بديعة زاهية، فالطبيعة حافلة بأزهارها ونباتاتها البرية من العكوب الى الزعتر البري والجرجير والبسباس والخبيزه والوانها وأنغامها تحتضنك و توفر لك الراحة و السعادة.
امتلأت انفاس أعضاء الفريق من عبير الأزهار وأنفاس الأشجار وريح الأعشاب بعـطر شذي تستمتع به كثيرا، كما شاهدنا الطيور المهاجرة المحلقة في السماء في هذا الوقت من العام في هجرتها الربيعية، وكانت طيور اللقلق الأبيض White Stork تطلق أصواتا مختلفة تمزق صوت الجو العاصف، وتصدح بنغماتها العذبة لتصل إلى أذنيك في يُسر فتطيبُ نفسك إلى سماعها، ويطيبُ بك المقام في هذه الجبال الساحرة، ويحلو العيش وتمتلئ نفسك أمنا.
اتخذنا مكاننا برهة قرب اشجار الرتم الجميلة الوارفة التي امتلأت بياضا، التماسا للراحة واستمتاعا بالطبيعة والتقاط الصور التذكارية مع العلم الفلسطيني المفدى، فما أجملها من بقعة ! ما رأت عين لروعتها نظيرا .
ومن الأعلى شاهدنا الأغوار الجميلة بقراها الفلسطينية والأردنية، والتي بعضها كان يتربع على قمم جبال الأردن، تنبسط حولها روضة غناء، وكم كان ابتهاجنا كبيرا ونحن نشاهد ذلك المنظر الجميل! بدت لنا لوحة فنـية رائعة، وصفحة برك الماء تتراءى ملتمعة مثل المرآة المصقولة أو الفضة البراقة، وقد علِق نظرنا بتلك المروج الخضراء الممتدة بأعشابها الناضرة وورودها اليانعة وتلك السهول المنبسطة والتي تعد الأخفض في العالم، انبساطا يبعث في النفس السرور ويجعلها تـهفو إلى أن تجوب أعطافها الواسعة التي تبهج العين بآيات فنها، وتنقي الصدر بهوائها النقي العليل، وتبتهج الروح بنفحاتها الشذية.
وخلال سير الفريق في الجبال شاهدنا الخنادق والإستحكامات العسكرية المطلة على الحدود مع الأغوار، كانت مصممة بطريقة هندسية بعضها باديا للعيان والبعض الأخر كانت عبارة انفاق مغلقة ومسقوفة بالحديد .
كان فريق "امشي تعرف على بلدك" في سباق مع الزمن نحو قرية "عرب الزبيدات" في الأغوار الشمالية، وقد سار ما يقارب الستة كيلومترات في أعالي الجبال والهضاب، حينما انعقدت في الشمس ظلال سوداء قاتمة فاحتجب قرص الشمس، وتلفعت الجبال والهضاب والربى برداء ابيض من الضباب، ما لبث الرعد ان قصف قصفا شديدا ترددت به أرجاء الجبال فاخد البرق يرسل شراراته الحمراء والبيضاء من خلال السحب الكثيفة المتراكمة، وانفجرت السماء عن امطار غزيرة سالت بها الوديان، وقد ارتدى بعض المشاركين معاطفهم الشتوية لمواجهة الأمطار فيما فتحت مظلتي السوداء لحماية الكاميرا من الأمطار الغزيرة .
تكاثفت السحب وقصف الرعد ولمع البرق، وثارت عاصفة هوجاء في شباط المتقلب المزاج، كنت اسمع صفير الريح التي ضربت بعنف وزمجرة الهواء الذي كان يدفع الفريق يمنة ويسرة مما اضطر قيادة الفريق تغيير المسار نحو قرية (فروش بيت دجن) حفاظا على سلامة اعضاء الفريق، واستمرت هذه العاصفة مدة ساعة من الزمن كانت أطول من الدهر، كانت اشجار الرتم تتراقص والرياح مندفعة من كل صوب .
سار الفريق مواجها ريحا عاتية تصفع وجوهنا، وتلسع اقدامنا، وتتسرب تحت معاطفنا، وقد ارتدى البعض معاطف شتوية ضد المطر فاقشعرت ابداننا وارتعشت اجسادنا واصطكت اسناننا فانطلقنا مهرولين وقد غطت الأمطار وجوهنا الأرض في نبع لا ينضب ماؤه .
وفي هذا الجو العاصف تذكرت قصيدة الشاعر ابن خفاجه الأندلسي، الذي وصف الجبل في قوته وثباته في وسط الصحراء، حيث شبه الجبل بعالم محترم ورزين، ووصف الغيوم التي تلف على الجبال كأنها العمامة التي تلف رأس الرجال، و وأن وميض البرق يومض عليها، فتبان وكأنها حمراء اللون كما شبه الجبل بإنسان يلبس العمامة وقال: "وأرعنَ طمّاحِ الذُؤابةِ بَاذخٍ ... يُطاولُ أعنانَ السماءِ بغارب..... يَسدُّ مهبَّ الريحِ من كلّ وجهةٍ ..... ويزحمُ ليلاً شُهبهُ بالمناكب ِ.... وقُورٍ على ظَهرِ الفلاةِ كأنهُ .... طوالَ الليالي مُفكِرٌ بالعواقِبِ.....يلُوثُ عليهِ الغيمُ سُودَ عمائمٍ.... لها منْ وميضِ البرقِ حُمرُ ذوائبِ... أصختُ إليهِ وهوَ أخرسُ صَامتٌ .... فحدثِني ليلَ السُرَى بالعَجائب".
وبعد سويعات من مسار الفريق نحو الغرب بدأ الطقس بالتحسن التدريجي، وقد بدت لنا المنحدرات والمنخفضات المستطيلة والسفوح المنحدرة جداً والتي نتجت عن جريان الماء، وبدت لنا بعض الهضاب والمساحات الخضراء الواسعة بين الجبال مترامية الأطراف في جبال (الجفتلك )، فأنشرحت صدور الْمَشَّائِيـــنَ في أحضان الطبيعة الساحرة، ليسترجع الفريق قُــواه ويجدّد نشاطه وسط المناظر الخلابة التي كانت تزخر بشتى أنواع المزروعات، وعلى مدى البصر امتدت المساحات الخضراء المليئة بما ما لذ وطاب من النباتات البرية خلابة المنظر في بساط مزركش ساحر رائع الجمال انتشرت فيه الزهور والرياحين كأنها دُرر منثورة، فاستراح الفريق لتناول الطعام بين الأعشاب الخضراء والزهور الشذية العطرة والسنابل الخضراء التي تتمايل بخجل يمنة ويسرة مع هبوب الرياح، وفي البعيد جرار زراعي لأحد الفلاحين وقد خط على الأرض خطوطا متوازية كانها لوحة من صنع فنان .
وعند الظهيرة انهى الفريق مساره الجميل (12 كيلومتر ) في قرية " فروش بيت جن " في الأغوار الوسطى وقد أمضى الْمَشَّاؤون من فريق " أمشي تعرف على بلدك " نهاره متجولا في أرجاء الجبال والهضاب والربى والمنحدرات والسهول، مستمتعين بما حوته من مناظر الطّبيعة الجميلة ومشاهدها الخلابة .











