مع ظهور الغيوم العالية في السماء وغياب أشعة الشمس وتلون السماء بألوان الشفق المشرقة وسقوط الأمطار الغزيرة على الأرض الممتدة  قبل نحو يومين، وانبعاث رائحة المطر في الهواء الطلق وانعكاس ألوان الطيف الزاهية في السماء العالية، كان مسارنا البيئي نحو وادي الداليه، مع بزوغ فجر يوم الجمعة 10-12-2021 وبقايا ليل بارد.

وكعادته تقريبا كل يوم جمعة كان فريق " أمشي وتعرف على بلدك " قد شد الرحال باتجاه المسار البيئي (وادي الداليه ) مسير التحدي والصعاب وتسلق القمم التي تلامس السحاب، كانت عقارب الساعة تزحف في ملل متثاقلة نحو السادسة  صباحاً وشعاع من الخيط الأبيض الناعم لفجر اليوم الجديد بدأ يتسلل إلى الداخل خلسة عبر شفافية زجاج النوافذ لثلاثة باصات صغيرة انطلقت في الصباح والمتجهة صوب شروق الشمس.

بدأ الفريق مساره الصباحي من شرق قرية "المغير"  باتجاه وادي الدالية والذي يبلغ طوله نحو 15 كم  ويمتد الى وديان فصايل والعوجا في أريحا شرقاً، كان المسار سهلا في البداية حيث الأراضي الزراعية الخصبة بالتربة الحمراء، وفي الجوار التقينا برعاة الأغنام وبعض مضارب البدو المصنوعة من الخيش والشعر، تلك المضارب التي يلجأ إليها البدو خصوصاً في الشتاء حين تبدأ الحياة الرعوية في البرية والغور، ولا يعودون من هناك إلا في أيام الصيف .

غادر الفريق مضارب البدو، وخطر في بالي انه في البدء، كانت البداوة،  كما دارت في ذهني عبارة " ابن خلدون " أن البدو أصل الحضارة وتخيلت طبيعة الحياة التي يعيشها بدو فلسطين الذين عاشوا مهمشين وملاحقين بعيدا في قلب الجبال وفي مضارب الوبر والصفيح وألواح " الزينكو” في أودية وشعاب البرية الفلسطينية الممتدة بمحاذاة الغور الفلسطيني وترابه القاحل المائل الى الصفرة من لفحات الشمس الحارقة في صيف الأغوار الحار.

وعن سبب تسمية الوادي بوادي الداليه والتي تعنى غصن العنب وهذا المعنى غير مناسب لطبيعة الوادي الصخرية والقاحلة ، لذلك من المرجح ان الاسم يعود الى عائلة سكنت المنطقة خلال الفترات القديمة وأن الإسم بالأصل دلايه ومع الزمن تم تحريفه.

ونصعد نحو التلال الموصلة لجبال اريحا والأغوار، تزداد كثافة الصخور في التلال، ننظر صوب الشرق وقد بدأت درجات الحرارة بالإرتفاع التدريجي، ويمر الفريق بالقرب من منطار ( قصر زراعي ) قام ببناءه بإتقان احد المزارعين الفلسطينيين لإيواء الأغنام مع بعض آبار جمع المياه المحفورة المتناثرة بين الجبال، نترك المنطار ونواصل السير ويستظل الفريق تحت فىء شجرة سدر "دوم" وحيدة بين هذه الجبال الجرداء امتلأت باعشاش الطيور كملاذ لها بين هذه الجبال، وكان هناك بضع شجيرات من الرتم الأبيض ونبات الملوح واوراق نبات العيصلان الذي أعلنت عن ظهورها المبكر بين الصخور متحدية البيئة الصحراوية القاسية اضافة الى بعض الأزهار التي نبتت بين شقوق الصخور .

مررنا بالجبال الشاهقة التي تخترق قممها قلب السحاب تكسوها الأتربة والصخور الكلسية "الحثانية" وبعض الحجارة البازلتية، لقد كانت التلال ترسم أروع لوحاتها التشكيلية، وهي مكسوة بالصخور الجميلة حيناً وبنبات "النتش" المنتشر حينا آخر ، فلا تسمع هناك سوى الطيور المغردة ومنها " الأبلق الحزين " والطيور الجارحة المحلقة في سماء الجبال بحثا عن فرائس في المكان، فلا ترى العين سوى قمم جبال صخرية عالية ذات ذؤابات حادة ومنحدرات وعرة، وشاهدنا من بعيد  سلسلة جبال الأغوار الوسطى وأهمها قمة " قرن سرطبه " الشهيرة والتي تضم بقايا قلعة للملك هيرودس .

خلال سير الفريق بين الصخور وبعد يوم ماطر شاهدنا الحَلَزُون والذي اتخد صدفات لحماية جسده الرخوي، ويعرف الحَلَزُون كذلك باسم بابوش في تونس وبلاد المغرب الكبير، وكان الرومان يعتبرون الحَلَزُون طعاما فاخرا للأغنياء، كما ذكر بلينيوس الأكبر في مؤلفاته، وهو حساء من الحلزون البري الصالح للأكل، في المقابل، يعتبر الحَلَزُون فريسة لأنواع عديدة من الطيور، السحالي، الحشرات المفترسة، ولذلك يعتبر أحياناً وسيلة طبيعية للتخلص من الآفات.

 يواصل فريق " امشي وتعرف على بلدك " مساره الجميل وفي الهواء الطلق والذي ضم مختلف الأعمار في الصعود نحو الجبال والتلال الشرقية، ننظر من بعيد نحو أريحا والأغوار والجبال الأردنية ونتذكر أيام السفر إلى عمان والهروب من الحر والذباب والاحتلال.

كانت الجبال الجميلة الشاهقة تثير فينا التفاؤل والتشاؤم معاً، وتساءلت في سري هل يعي المستثمرون والسياسيون هذا الجمال والبهاء والروعة الكامنة في التلال البرية التي ما زالت تنتظر من يعيد إليها، إن الجلوس، مجرد الجلوس على أي تل هناك، بمثابة سياحة بيئية لا يمل منها،  إنها الأراضي البكر التي لم يلوثها إنسان، وبالطبع لوثها الاحتلال، بعض الشيء، تظل مزارع التمور والمستوطنات الصغيرة تظهر بين الحين والآخر، تثير تساؤلاً حول إقامتها. إن الطمع الإسرائيلي بالغور والبحر الميت طمع لا يوازيه طمع آخر، وهم بعلومهم يدركون أكثر من الفلسطينيين أهمية هذه الأراضي.

خلال السير في وادي الداليه والذي استمر نحو 15 كم شاهدنا عشرات من الحفر الضيّقة العميقة المليئة بالمياه، ومررنا بمجموعة من الكهوف، والتي ضمت عشرات الخفافيش، أهمها مغارة أبو شنجة و مغارة عراق أبو كتة ومغارة الداليه ومغارة عراق النعسان إحدى أطول المغر في فلسطين والتي قيل لنا انه عثر داخل هذه المغر، من قبل أحد الرعاة الفلسطينيين والذي كان يبحث عن عنزة ضالة بجانب إحدى الكهوف المجاورة للموقع، على مجموعة من البرديات تعود لفترة مابين331 ق.م الى عام 100م هذه المجموعة من الوثائق(البرديات)، وهي عبارة عن وثائق اقتصاديّة ودينيّة وادوات استخدمت بتلك الفترة وكانت مكتوبة باللغة الآرامية، وشاهدنا على ابواب بعض المغر بقايا فخار مكسر يعود الى الحقبة الرومانيّة، ويبدو ان المكان ضم العديد من المعالم الأثرية والذي شهد الحضارات منذ فجر التاريخ.

عدنا إلى البيت متعبين جدًّا لكننا فرحين بالوقت الذي قضيناه مع الفريق في ربوع الوطن محملين بطاقة جديدة وصور اجمل من الطبيعة الصامتة الحانية، وأيقنا وقتها اننا لن نحصل على السعادة في أي مكان آخر، إذ إنّ الجمال لا يكون بالمكان قدر ما يكون بالأشخاص الذين نمضي معهم أوقاتنا تمدنا بالسعادة والفرح والقوة لإستمرارية الحياة .