أعدت قناة "الحرة" تحقيقا مفصلا عن جائحة كورونا في لبنان، خصوصا بعد تزايد عدد الإصابات اليومية بشكل كبير، الأمر الذي يثير القلق والمخاوف من تفش جديد، ربما يكون الأخطر منذ بدء الجائحة.
كتبت "الحرة": يقترب لبنان من الوصول إلى الألف الثانية على عداد الإصابات اليومية بفيروس كورونا المستجد COVID19، حيث سجل اليوم الأربعاء بحسب وزارة الصحة 1994 إصابة جديدة و9 حالات وفاة. في موجة جديدة لانتشار الفيروس يعيشها لبنان كما معظم دول العالم، وتقترب من ذروتها مع اقتراب موسم الأعياد الذي يفرض مزيدا من الاختلاط بين الناس.
الفارق في حالة لبنان، أنه وبينما يراكم العالم خبرة وقدرات في مواجهة الجائحة ويسابق المرض بحملات التلقيح، يعاني لبنان من تراكم عجز بنيوي في قطاعه الصحي، نتيجة الأزمة الاقتصادية، وتدهور في جهوزية البلاد تجعل مواجهة موجة انتشار جديدة للمرض أشبه بالمهمة المستحيلة، على ما يؤكد المعنيون، ما ينذر بمأساة صحية مقبلة، يحاول المسؤولون تفاديها.
وعلى الرغم من الآمال المعقودة على حملات التلقيح ونسب الإقبال بين المواطنين، لا تزال النتائج تحمل هوة كبيرة ما بين نسبة متلقي اللقاح، التي بلغت 33 بالمئة للجرعتين و40 بالمئة لجرعة واحدة، وبين نسبة الإصابات الإيجابية المسجلة عبر الفحوصات والتي بلغت 10.3 بالمئة، فيما تسجل وزارة الصحة وجود 21057 حالة نشطة في البلاد خلال الأسبوعين الماضيين.
الموجة الأخطر
وسبق للبنان أن شهد 3 موجات لانتشار جائحة كورونا، رافقت الموجات العالمية، أكبرها كانت الموجة التي لحقت بفترة عيدي الميلاد ورأس السنة، ونجح بتجاوزها في حينها، معتمداً على المساعدات الخارجية ومستشفيات القطاع الحكومي والخاص، إلا أن عاماً كاملاً من الانهيار المالي المستمر بدل في المشهد، وأنتج معطيات جديدة تجعل لبنان أمام الموجة الأخطر من عمر الجائحة إذا ما تكرر سيناريو الأعياد.
فبحسب رئيس لجنة الصحة النيابية في لبنان، الدكتور عاصم عراجي، فإنه إذا ما شهد لبنان حالة تفشٍ كبيرة للمرض، فإن الواقع الاقتصادي سيمثل العائق الأول أمام الجميع والتحدي الأبرز لجهوزية القطاع الصحي، "وقد لا نستطيع اليوم القيام بنصف المجهود المبذول العام الماضي، ولهذا السبب سنكون أمام المرحلة الأصعب."
من جهته، يضيف رئيس اللجنة الوطنية لإدارة لقاح كورونا في لبنان، الدكتور عبد الرحمن البزري، أن الموجة المقبلة على لبنان، تحركها عوامل عدة أولها يرتبط بالطقس البارد الذي يسيطر على البلاد، "حيث تنشط وتنتشر الفيروسات التنفسية بشكل أكبر، فيما الناس تلازم منازلها والأماكن المغلقة أكثر من الأماكن المفتوحة، وبالتالي يساهم ذلك بانتشار المرض بشكل أسرع."
العامل الثاني بحسب البزري هو عامل التلقيح، الذي لا تزال نسبته منخفضة في لبنان، "وعلى الرغم من بلوغها عتبة الـ 40 بالمئة إلا أننا تأملنا أن تكون النسبة أكبر نظرا لتوفر الإمكانيات والعدد الكافي من اللقاحات."
ويضيف في حديثه لموقع "الحرة" أن العامل الثالث يتمثل في عدم امتثال الناس لشروط التباعد الاجتماعي والإجراءات الوقائية لتجنب نقل عدوى كورونا، كوضع الكمامة وتجنب التجمعات الكبيرة وغير المنضبطة، "هذه العوامل إذا ما أخذت مع بعضها البعض، سنكون امام موجة صعبة".
وعن السلالة السائدة حاليا في لبنان، يلفت البزري إلى أن المتحور الأكثر انتشاراً اليوم في لبنان هو متحور دلتا، وحتى الآن لم يتم رصد عدوى من سلالة أوميكرون، "وحين سيصل المتحور سنعلن عن الأمر كما أعلنا عن المتحور دلتا من قبل".
القطاع الصحي عاجز
كل هذه العوامل تنعكس عجزاً "مؤكداً" لدى المستشفيات عن المواجهة وإتمام الجهوزية، بحسب ما يؤكد نقيب أصحاب المستشفيات الخاصة سليمان هارون لموقع "الحرة"، ويرى أن "الواقع الحالي أسوأ بكثير مما كان عليه قبل عام، حيث كان وضع المستشفيات جيد جداً وجرى استيعاب الضغط كله ولم يبق مريض بلا معالجة، أما اليوم لا إمكانية للعودة إلى الجهوزية نفسها."
عدم جهوزية القطاع الصحي بالنسبة إلى النائب عراجي "تثير الخوف أكثر من المرض نفسه"، لاسيما لناحية النقص الحاصل في الكوادر الطبية بسبب هجرة الأطباء والممرضين خارج البلاد سعياً لتحسين ظروف عيشهم بعد انهيار القيمة الشرائية لرواتبهم في لبنان.
كذلك بالنسبة إلى جهوزية المستشفيات وتجهيزاتها التي تأثرت بالواقع الاقتصادي بشكل كبير، حيث يلفت عراجي إلى أن عدداً كبيراً من المستشفيات أغلقت الأقسام الخاصة بمرضى كورونا، وانخفض عدد الأسرة من 2500 سرير قبل عام إلى نحو 800، تضم اليوم نحو 570 مريضاً، وبالتالي تقترب من مرحلة الامتلاء الكامل، "وفيما واقع المستشفيات الحكومية يتدهور بفعل تآكل موازناتها، يحاول وزير الصحة حالياً الضغط على المستشفيات الخاصة من أجل رفع عدد الأسرة نحو 40 بالمئة".
في المقابل فإن أغلبية المستشفيات التي أقفلت أقسام كورونا، تواجه صعوبة بإعادة فتحها في ظل الأزمة التي يعانيها القطاع الاستشفائي في لبنان، وفقاً لنقيب أصحاب المستشفيات، الذي يشير إلى عدم توفر أعداد كافية من الأطباء والممرضين لفتح أقسام جديدة، إضافة إلى صعوبات مادية ناتجة عن ارتفاع أسعار المستلزمات والمعدات الطبية، وعدم توفر مخزون كاف منها لدى المستشفيات، "لكونها تستنزف مبالغ نقدية كبيرة جداً بالدولار، فيما مرضى كورونا يستهلكون الكثير من المعدات الطبية ولاسيما الملابس الخاصة بالعزل والوقاية، كذلك بالنسبة إلى مادة الأوكسيجين التي أصبحت تباع أيضاً بالدولار".
أرقام خيالية
يجزم النائب عراجي أنه وصول لبنان إلى مرحلة انتشار مماثلة للعام الماضي سيضعه "أمام مأساة"، فالمشكلة ليست بعدد الإصابات، بل بحجم المرضى الذين سيحتاجون إلى مستشفيات. ويضيف "خلال العام الماضي تعالج كثير من المرضى في المنازل، لكن الواقع الاقتصادي كان أفضل قليلاً، استطاعوا حينها توفير الأوكسيجين وماكيناته في منازلهم، ولكن اليوم الأوكسيجين بات بسعر الدولار، وكذلك أدى الارتفاع الكبير في كلفة الكهرباء إلى تخلي عدد كبير من المواطنين عن كهرباء المولدات، فيما أسعار الأدوية تحرق."
وعلى الجانب الآخر فإن الفاتورة الاستشفائية لمرضى كورونا تضاعفت أربع أو خمس مرات على أقل تقدير بحسب نقيب أصحاب المستشفيات، حيث باتت تتراوح كلفة الليلة الواحدة في قسم العناية الفائقة ما بين 7 و10 مليون ليرة لبنانية، أما في الغرف العادية فباتت التكلفة تتراوح ما بين 3 ملايين ونصف و5 ملايين في اليوم، وذلك بسبب رفع الدعم عن المستلزمات الطبية والأدوية، فيما الأوكسيجين تضاعف سعره 5 مرات.
هذا الأمر سيؤثر على تلقي الناس لعلاجاتها بحسب هارون، "والخطورة هنا لا تقتصر على مرضى كورونا، فحتى المرضى العاديين لم يعودوا قادرين على دخول المستشفيات بسبب الفروقات الكبيرة في الفاتورة الاستشفائية بالنسبة للمؤمنين والمضمونين."
"الأرقام باتت خيالية"، بحسب وصف النائب عراجي فالدولة اللبنانية عاجزة عن الدفع، كذلك بالنسبة إلى شركات التأمين والجهات الضامنة، "كلهم عاجزون عن تحمل الفروقات ودفع التكاليف لاسيما بعدما تضاعفت التعريفات".
ويلفت عراجي إلى أن "وزارة الصحة ستدفع 3 أضعاف ونصف الفاتورة الاستشفائية للمستشفيات بتمويل من البنك الدولي، ولكن يبقى أن كلفة أي مستلزمات طبية باتت مكلفة وبسعر الدولار، ستقع على عاتق المريض وهذه أزمة بحد ذاتها."
هذا الإجراء الذي اتخذته وزارة الصحة قد يساعد في تخفيف جزء من التكاليف الاستشفائية على المرضى، "لكنه لا يحل المشكلة" وفقاً لهارون الذي يؤكد أن اللبنانيون وصلوا إلى مرحلة "التعتير بعد الفقر، وبات الدخول إلى المستشفى يكلف عشرات الملايين، وينعكس ذلك على القطاع الاستشفائي بوضوح، فنسبة إشغال المستشفيات انخفضت إلى 50 بالمئة".
تحذيرات شديدة
كل ما سبق يمثل السبب في شدة التحذيرات التي يطلقها المسؤولون في لبنان، وفقاً لرئيس اللجنة الوطنية لإدارة لقاح كورونا، الذي يشير إلى أن السلطات اللبنانية تتجنب اتخاذ خطوات مؤلمة كإغلاق البلاد، أو تطيير العام الدراسي أو إفشال موسم الأعياد، "لكن على الناس في المقابل التخفيف عن نفسها وعن القطاع الصحي والاقتصاد من خلال الالتزام بالإجراءات الوقائية، وتنشيط عملية التلقيح إضافة إلى التباعد الاجتماعي في الأماكن المزدحمة وخلال التحركات."
وكان مجلس النواب اللبناني أقر في جلسته الأخيرة قانوناً يقضي بدفع غرامة بقيمة 50 ألف إلى 250 ألف ليرة لبنانية على كل من يمتنع عن أخذ لقاح كورونا، مع الإشارة إلى أن هذا القانون لا يُلزم أخذ اللقاح إنما يفرض الغرامة على كل من ينشر الوباء.
كذلك ستتبع إجراءات وقائية صارمة تمنع التجول على من لم يتلقى اللقاح إلا بشرط إبراز فحص PCR لا يتعدى تاريخ صدوره الـ 48 ساعة، وتفرض التلقيح على فئة كبيرة من الموظفين والعمال في قطاعات معينة كالنقل العام والقطاع الصحي.
هذه الإجراءات أثارت بلبلة على مواقع التواصل الاجتماعي، واتهامات للدولة اللبنانية برمي المسؤولية على عاتق المواطنين بدلاً من العمل على تغطية العجز في القطاع الصحي وتخفيض كلفة الاستشفاء والأدوية وتنشيط حركة التلقيح، لاسيما أن عدداً كبيراً من المواطنين لا يزال ينتظر وصول دوره لأخذ اللقاح من خلال التسجيل في المنصة الخاصة التابعة لوزارة الصحة اللبنانية، بينما يعبر آخرون عن صعوبة في الوصول إلى اللقاحات.
إلا أن البزري يرى أن هذا الاعتبار غير صحيح، فالدولة اللبنانية تقول اليوم انها أمنت عددا كافياً من اللقاحات، ولا تزال توسع انتشار مراكز التلقيح في مختلف المناطق أمام كل من يرغب بتلقي اللقاح، فيما الإجراءات المتخذة تهدف إلى إثبات عدم إصابة المتجولين ومساهمتهم في نشر المرض، "فنقل العدوى ليس قراراً شخصياً بقدر ما هو مسؤولية جماعية".
والخيار الآخر البديل عن هذه الإجراءات، بحسب البزري، هو إقفال البلاد "مع ما سيرتبه ذلك من آثار اقتصادية مدمرة على الناس بالدرجة الأولى، إضافة إلى كونه يؤدي إلى مشاكل صحية وأمراض نفسية وعصبية أخرى ليست أقل خطراً على المواطنين."
من جهته يختم عراجي مؤكداً أن هناك لقاحات كافية للجميع، لكن في المقابل هناك نقص كبير في الوعي العام تجاه أهمية اللقاح وانسياق كبير خلف الشائعات على الرغم من كل الجهود الإعلامية والصحية المبذولة، ومعتبراً أن "الجواب على كل المخاوف والحل الأمثل للجميع يكمن في تلقي اللقاح بأسرع وقت ممكن."