غادرنا مدينة النفيضة الجميلة التي تمتد جذورها الى الحقبة البربرية، حيث استوطن فيها البربر متخذين من جبل "تكرونه" القرية الأثرية حصنا لهم، والتي كانت وجهتنا التالية في هذه الرحلة التاريخية بعد النفيضة وزغوان في تونس الخضراء .
في طريق العودة من معبد المياه في زغوان، برفقة استاذ قسم التاريخ في جامعة سوسة الصديق سفيان بن موسى، مررنا بقرية " تكرونه " البربرية الجميلة وهي إحدى البلدات التونسية، التي تقع في ولاية سوسة وتبعد حوالي 100 كيلومتر من العاصمة تونس وتتموضع على أعلى جبل، وقد شيدت فوق جرف صخري مغطى بالصبار، لتبقى شاهد على ملامح حياة البربر الامازيغ والتي احتفظت على طابعها الخاص، وتتميز بموقعها فوق تلة صخرية صلبة حافظت على تماسكها وصمدت بوجه العوامل الطبيعية والبشرية .
حافظت تكرونه على اسمها الأمازيغي حتى يومنا هذا، وتحيط بها بساتين زيتون وأراض زراعية واسعة من مختلف الجهات، ولا تزال تسكنها بعض العائلات الأمازيغية التي لا تزال تحاول التشبث بأرض اجدادها لتحول دون طمس هويتها .
تكرون لا يمكن الوصول إلى أسرارها والتواءات أزقتها وبيوتها وجامعها والتمتع بنسائمها المعلقة وأعشاش الكواسر بين صخورها، إلا عبر مدرجها الشهير المرصف بالصخر والتي تحيط به نباتات الصبار، وتعد القرية اليوم وجهة سياحية مميزة، ولا تزال تحتفظ بالمطبخ الأمازيغي، حيث لا تزال نساء القرية تخبز خبز الطابونة والمحمصة، بالإضافة الى طهي الأكلات الشعبية كالكسكسي .
فجمال القرية وجمال المنظر الذي تطل عليه من أعلى، جعلها أحد المواقع التي يقصدها صناع السينما والدراما، كما تعد القرية أيظا قبلة للتظاهرات الثقافية والرحلات الترفيهية لا سيما في فصل الربيع، حيث تزدان القرية بالازهار التي تحيط بالمباني فتزيدها جمالا، فرغم قساوة العيش فيها تستمر تكرونة ويستمر اهلها في الحياة فيها لتكون واحدة من آخر المواقع التاريخية في الحضارة الأمازيغية
الأديب التونسي (الطاهر قيقة) دائم القول إنه استلهم سردياته وأغلب كتاباته من المناخات التاريخية والاجتماعية والجمالية لقريته تكرونة. ويقول عنها في إحدى حواراته الصحفية " تكرونه هي الجبل، هي الريف، هي الجامع والزاوية والمقبرة، والصخور المتناثرة بين المنازل، تذكر أهل القرية بالشدة والصلابة التي جبلوا عليها مع الأنفة وعزة النفس والشموخ، تكرونة هي المنبت، هي الذكرى، لقد علمتني الحياة".
لم تسنح لنا الفرصة بالدخول الى قرية تكرونه والتعرف على العادات والتقاليد القديمة لعائلات البربر هناك، ولإلقاء نظرة عن قرب على الهندسة المعمارية والبربرية التقليدية وذلك بسبب انهيار جزء من الجبل الذي تقع فوقه قرية تكرونة البربرية، حيث كان المدخل الرئيسي للقرية مغلقا، إذ استفاق الأهالي في الثاني من شباط (فبراير) عام 2021 على سقوط صخرتين من الحجم الكبير جراء الإنهيار الجزئي للجبل، وتسببتا في تدمير أحد المنازل الخالية من السكان .
ورغم هذا الحادث تبقى تكرونة قرية أمازيغية شامخة فوق الجبل تعاند السماء، وتتحدى تضاريس الأرض والطبيعة وتصارع الإهمال، حيث لا تصعد وسائل النقل إلى أعلى الجبل، بل تتوقف في القرية الجديدة لتكون بقية الرحلة صعودا على القدمين، لتحير الأسئلة للزائرين ولتبقى شاهدا على ملامح حياة البربر الأمازيغ .
"عراق بوريـن " قرية معلقة على جَرْف صخـري
اذا كانت صخرة الروشة أيقونة بحر بيروت والتي تعد واحدة من أروع معالم السياحة في بيروت، ومن أشهر المعالم الأثرية في لبنان عامة، واذا كانت قرية تكرونه البربرية الواقعة في الشمال التونسي من أشهر القرى البربرية المتموضعة فوق جرف صخري عظيم، فان صخرة " عراق بوريـن " تعد الأشهر في شمال الضفة الغربية في فلسطين لكن لماذا؟؟
إلى الجنوب الغربي من مدينة نابلس بنحو7 كم، تقع قرية صغيرة جميلة تتربع فوق مرتفع صخري شاهق شديدة الانحدار، وتتفرد بموقعها الجغرافي عن باقي قرى الضفة الغربية، ويعود تاريخ القرية الى عصور قديمة حيث وجدت فيها قطع أثرية من العصر البرونزي المتأخر، وأخرى من العصر الحديدي الأول، إضافة إلى اكتشاف أرضية من الفسيفساء تعود للعصر البيزنطي.
انها "عراق بوريـن" القرية الصغيرة الوادعة المعلقة على صخرة شماء، والتي تلامس الغيم وتعانق عنان السماء، حيث بنى السكان الفلسطينيون فوق هذه الصخرة الضخمة جميع بيوت القرية والتي يبلغ عدد سكانها حوالي ألف نسمة.
لقد استمدت القرية تسميتها من موقعها الجغرافي المميز، فكلمة عراق تعني المكان المرتفع من الأرض، كما أن أهاليها يرجعون في أصلهم إلى قرية "بورين" المجاورة واستقروا فيها قبل سنوات طويلة للزراعة وتربية المواشي .
تعاني قرية " عراق بوريـن " كثيرًا من اعتداءات المستوطنين عليها، وخصوصا من مستوطنة "براخاه" من ناحية الاستيلاء على الأراضي، حيث تتوسع المستوطنة سنويا، وكانت تحدث اشتباكات دموية في مواجهة مصادرة أراضيهم والدفاع عنها، وسقط على إثرها ثلاثة شهداء رميا بالرصاص الحي، كما أن الجيش يمنع المزارعين من وصول أراضيهم القريبة من المستوطنة إلا بتنسيق مسبق لمدة يومين فقط خلال موسم الزيتون .
تشتهر القرية "عراق بوريـن" بالتين الشوكي "الصبر" أو الصبار الذي يتدلى من علو شاهق من الصخرة الضخمة، كان لمذاقه الطيب طعم لذيذ لا يضاهيه في الحلاوة سوى صبر "فقوعة" ، وعندما مازحت رئيس مجلسها السابق الصديق "أبو هيثم قادوس" وقلت له أن صبر بلدة " فقوعة " طيب، أجابني يجب أن تجرب صبر "عراق بوريـن"، والنتيجة كان صبر جبلي بعلي بطعم طيب ورائع كطيبة وروعة أهل "عراق بورين".
كان لي الشرف قبل سنوات ومن خلال عملي السابق كمسؤول في تخطيط المشاريع بالمساهمة في بناء طابق جديد لمدرسة عراق بورين الثانوية المختلطة.