ويأتيك من يتحدّث عن استعداده لأن "يتجرّع السمّ" تسهيلاً لتشكيل "حكومة مهمّة" كأن ينبغي أن تولد قبل أسابيع... حكومةٌ أُجبر الفرقاء اللبنانيون على القبول بها في مبادرةٍ فرنسية شكلت الأمل الأخير الممكن للجم هذا الانزلاق السريع للبنان نحو زوالٍ محتوم، وسط كل هذه الفوضى التي عصفت به، والسعي المعلن إلى تغيير النظام مثالثةً أو فدرلةً، والانهيارات التي طالت كل مفاصل حياة الناس وحرمتهم أبسط حقوقهم.
يحدّثك رئيس الحكومة السابق سعد الحريري عن استعداده لـ "تجرّع السم"، في محاولةٍ منه لتصوير نفسه في موقع المتنازل عن "قوّته" أمام مَن يمثّل، والمضحّي بـحقوقه وحقوقهم في سبيل إنقاذ لبنان... ومثله يفعل شركاؤه في قضم ما تبقّى من البلد، هذا بحجة منع نشوب صراعٍ طائفي، وذاك حرصاً على سلامة الناس، بعد كل المآسي التي تسببّ بها تحكّمهم بالمناصب والقرارات التي يدّعون اتخاذها باسم المواطنين أو حمايةً للوطن ومنعاً لزواله، فيما الكل يدرك أنها محاصصة متبادلة وحفلة تناتش متواصلة لوحوش سلطة يتحلّقون حول "وطنٍ" يوشك بفضلهم أن يتحوّل جثةً لن يكلّف أحدٌ نفسه عناء دفنها!
أيّ سمّ هذا الذي تتحدّثون عنه أمام ما تجرّعته أمهاتٌ فقدن أبناءهنّ في حروبٍ عبيثة وتفجيراتٍ مجهولة وتسوياتٍ مشبوهة؟
أيّ سمّ أقسى من تلهّيكم بالصغائر ونبشكم قبور النعرات الطائفية والمذهبية وادعائكهم "القوّة والأبوّة والأخوّة"، وإطلاقكم "أطنان" الوعود الكاذبة بإصلاحٍ وتغيير وتطوّر ومستقبلٍ زاهر، في مقابل التغاضي عن "أطنان" من المتفجرات كانت تقبع وسط بيوت الناس برعايتكم المباشرة للإهمال والتشبيح، قبل انفجارها أو "تفجيرها" وإطاحتها ببيروت ومرفئها وبيوت الناس وأرزاقهم؟
أيّ سمّ أشدّ ظلماً من رؤية يدٍ طُمرت تحت أطنانٍ من القمح كان صاحبها يشتهي منها رغيفاً جعله "المتنعّمون" مغمّساً بالعرق والأسى وبالدم؟
وأيّ سمّ أشد فتكاً من سياساتكم وتحالفات مصالحكم المتبدّلة التي أفقرت الناس وحجزت على أموالهم وصادرت مدّخرات عمرهم وبدّدت أحلامهم وجعلت قمّة طموحهم الحصول على سلّة غذاءٍ مدعومة أو تنكة بنزين نجت من التهريب الشرعي؟
وأيّ سمٍّ أقسى من دموعٍ يذرفها كبارٌ في السنّ ومتقاعدون ومغتربون وموظفون بسطاء على جنى عمرهم الذي أودعوه مصارف شارك أصحابها و"حاكمها" بتهريبها ونهبها؟
وأيّ سمّ علقمه أشدّ من حرقة الأهل على أبناءٍ يودّعونهم، بل يدفعونهم إلى مغادرة "لبنان الأخضر" الذي لم تَبقَ بقعةٌ فيه لم تحوّلها نار الفساد والتفّلت والممارسات الميليشياوية في إدارة شؤونه إلى مزابل أو رماد؟
وأيّ سمّ أكثر رعباً من اضطرار أبٍ لأن يروي ظمأ طفله ابن السنتين بمياه البحر المالحة، ويقدّم له وجبة الحليب ممزوجةً بملح البحر خلال هروبه مع العشرات غيره على متن قوارب الموت من وضعهم المأسوي إلى المجهول غير آبهين بالموت، بل ساعين إلى حضنه خلاصاً من ذلّ العيش في "قطعة السما"؟
وأيّ سمّ أشدّ مرارةً من أن يرمي هذا الأب جثة ابنه في لجة البحر طعاماً للسمك بعدما نهش حيتان الحكم أمله بغدٍ لا يريد منه سوى لقمة العيش الكريمة؟
فلا تحدّثونا عن اضطراركم للتضحية وتجرّع السم، أنتم الذين عوّدتم الناس تجرّعه حتى أدمنوه...!