عندما قدّم الفنان دريد لحام فيلمه الكوميدي الساخر "إمبراطورية غوار" في العام 1982، المقتبس عن قصص للأديب السوري زكريا تامر، والذي يمكن تصنيفه كواحدٍ من أفلام الكوميديا السوداء تجسيداً لمقولة "المضحك المبكي"، إذ يتناول قضايا الفساد والاستبداد والديكتاتورية في حارةٍ تتقاسم الهيمنة والسيطرة عليها زمرةٌ من "الزعماء الفاسدين" أمثال "أبو جميل" و"أبو عناد" الذين يتحكمون بمفاصل حياة أبنائها ويفرضون الخوات عليهم، ويبطشون بمن يرفض الانصياع لهم، ويحوّلون الحارة إلى دويلةٍ تنتسب إلى حضارة "بلاد الواق واق"، حيث ينتشر الفساد والبلطجة وتسودُ لغةُ الغاب وهيمنة القويّ على الضعيف، وكلما قوي عودُ مستزعمٍ مستجدّ، وأصبح كعبه أعلى من كعب الموجود، أطاح به وتزعّم مكانه، لتكون النتيجة أنّ الزعيم يتغيّر ويبقى الفساد والطغيان والاستبداد، إلى أن يخرج من عامة الناس "غوار الطوشي" الذي يقود حركةً ثورية في وجهِ المتحكمين، وينجح بجرأته وشجاعته وصيته الطيب، في أن ينتزع السلطة من المتحكمين المتجبرين، اعتقدنا حينها أننا أمام ولادةِ حارةٍ جديدة متحرّرة من الاستبداد والفساد والفاسدين، استناداً إلى ما تُحدثه الثورات عادةً، لكنّ ما حدث هو عكس ذلك، فتم استبدال طاغية بآخر وهيمنة بهيمنة أكبر وفساد بفسادٍ مضاعف..
حين شاهدنا الفيلم اعتقدنا للوهلة الأولى أنه مجرّد عمل فكاهي، الهدف منه زرع الابتسامة في زمنٍ بائس، ولكن عندما تلقفنا إشاراته ومغزاه و"لطشاته المبطنة"، أدركنا أننا أمام حقيقة مؤلمة مفجعة، تعبّر عن واقعٍ مرير. ومع مرور الأيام وتوالي الأحداث واستعراض التطورات ومراقبة ما يحدث، أيقنّا أنّنا وجدنا تلك الحارة التي تناولها الفيلم، وأدركنا أنّ القصة ليست من وحي الخيال، بل هي حكاية مزرعة على ضفاف المتوسط، أسميناها زوراً دولة، وتعرّفنا على وجوه زعمائها، من "أبي جميل" إلى "أبي عناد" وسواهم، وعلى أرتال البلطجية والسماسرة الذين يقودونهم ليبطشوا بالبشر والحجر، وشاهدنا كيف يتناوب المستقوي فيها على الآخرين، ويتنازعون على السلطة التي تنتقل من تحكم عصابةٍ إلى أخرى حسب ارتفاع ِ أو هبوطِ منسوب القوة، وهكذا دواليك تدور رحى الطاحونة التي لا تطحن سوى الشعب المغلوب على أمره، لتقتات على أشلائهم طغمةٌ من المستبدين الفاسدين الذين باعوا الوطن ودفنوا الضمير..
فأهلاً وسهلاً بكم في "إمبراطورية غوار".. أهلاً بكم في لبنان!