كرست الأمم المتحدة خلال دورتها الحادية والستين بتاريخ اليوم الثاني من تشرين الأول (أكتوبر) من كل عام الإحتفال بـ "اليوم العالمي للاعنف" تزامنا مع تاريخ رائد اللاعنف في العالم ألمهاتما غاندي، وحمل القرار الرقم A/RES/61/271 بتاريخ 15 حزيران (يونيو) 2007، ومنذ العام 2018 احتضنت عاصمة لبنان بيروت لنسختين من "منحوتة اللاعنف العالمية" من ابتكار النحات والرسام السويدي كارل فريديريك رويترزورد Carl Fredrik Reuterswärd. وتمثلان "مسدسا مربوطا"، أهداها لصديقه الفنان جون لينون، نجم فرقة الـ "بيتلز" البريطانية، إثر اغتياله عام 1980، وقد وضع التمثال للمرة الأولى في ساحة مدينة مالمو في السويد، ثم وضعت النسخة العالمية منه، بتقدمة من حكومة اللوكسمبورغ، أمام مقر الأمم المتحدة في نيويورك عام 1988، وبيروت هي العاصمة العربية الأولى، التي تحتضن هذه المنحوتة بنسختين، بين أكثر من 30 ساحة عامة في العالم، بهدف رمزية ثقافة اللّاعنف في المجتمع.
غاندي
هو السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلال الهند، كان رائداً للساتياغراها وهي مقاومة الاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل، التي تأسست بقوة عقب تبنيه مبدأ "أهمسا" وهي كلمة Ahimsa بالسنسكريتية أو اللاعنف nonviolent resistance الكلي، وAhimsa هي واحدة من الفضائل الأساسية للديانة الجيانية، وهي أيضًا أول مبادئ البوذية الخمسة، وAhimsa مفهوم متعدد الأبعاد، مستوحى من فرضية أن جميع الكائنات الحية لديها شرارة من الطاقة الروحية الإلهية، لذلك فإن إيذاء كائن آخر هو إيذاء النفس، وارتبط مبدأ أهيمسا أيضًا بفكرة أن أي عنف له عواقب كارمية، في حين أن علماء الهندوسية القدماء كانوا روادًا وصقلوا مبادئ أهيمسا، فقد وصل هذا المفهوم أيضًا إلى تطور غير عادي في الفلسفة الأخلاقية للجيانية، وتبنى هذا المبدأ المهاتما غاندي، وتوّج مسيرته النضالية اللاعنفية باستقلال الهند وألهم الكثير من حركات الحقوق المدنية والحرية في جميع أنحاء العالم، كما يحتفل بيوم استشهاده في 30 كانون الأول (يناير) من كل عام كيوم الشهداء الهندي.
جامعة "اللاعنف" في لبنان
وتابع الرائدان في ثقافة اللاعنف في لبنان والعالم العربي، ومنذ العام 1983، وإبان الحرب اللبنانية، الدكتور وليد صليبي وأوغاريت يونان، مسيرة نضالية في تكريس هذه الثقافة في لبنان والعالم العربي، وبمثابرتهما والتزامهما أثمر آلاف الناشطين ومئات الهيئات والبرامج المحلية والإقليمية، وتأسيس مجموعات وهيئات تربوية ومدنية وتأهيل مدربين ورواد في هذا المجال، لتتوج المسيرة في العام 2014 بتأسيس جامعة اللاعنف وحقوق الإنسان AUNOHR، وهي الأولى من نوعها في لبنان والمنطقة،بهدف بناء شبكة مجتمعية من المؤمنين بثقافة اللاعنف وحقوق الإنسان، وتاليا بإنجاز تمثل بإصدار قرار من مجلس الوزراء اللبناني، لتكريس 4 تشرين الأول (أكتوبر" "اليوم الوطني لثقافة اللّاعنف في لبنان" وذلك بالتعاون مع وزارة الثقافة، وحمل هذا القرار رقم 7 بتاريخ 13/07/2016، بالإضافة إلى توقيع اتفاقية أولى من نوعها مع وزارة التربية ومع المركز التربوي للبحوث والإنماء، تكرس بموجبها رسميا إدخال "ثقافة اللاعنف" في المناهج من مرحلة الروضة إلى مرحلة الثانوي ولسائر المدارس (رقم 2505/م بتاريخ 15/5/2018)، وتدشين نسختي المنحوتة في احتفالية ضخمة بتاريخ 2 تشرين الأول (أكتوبر) 2018، وبحضور حفيد المهاتما غاندي "آرون غاندي" Gandhi Arun.
والجامعة تحتفي بتسعة اختصاصات في درجتي الدبلوم والماجستير، وتخطط للبدء في برنامج لدرجة البكالوريوس، بالإضافة إلى مئات الدورات والبرامج والحلقات التدريبية في مجال اللاعنف.
ثقافة اللاعنف
وفقا للأمم المتحدة، يرتكز مبدأ اللاعنف، أو "المقاومة اللاعنيفة" على رفض استخدام العنف الجسدي لتحقيق تغيير اجتماعي أو سياسي، وهو شكل من أشكال الكفاح الاجتماعي، ومن الركائز الأساسية لنظرية اللاعنف أن سلطة الحكام تعتمد على موافقة المجتمع، ومن ثم يسعى اللاعنف إلى تقويض هذه السلطة من خلال الحصول على موافقة وتعاون الشعب.
وثمة ثلاث فئات رئيسية للعمل اللاعنيف:
- الاحتجاج والإقناع، بما يشمل المسيرات والاعتصامات؛
- عدم التعاون؛
- التدخل غير العنيف، من قبيل عمليات الحصار واحتلال أماكن.
وكثيراً ما يوصف مبدأ اللاعنف بأنه "سياسة الناس العاديين"، وقد تبنته جماهير الناس في مختلف أنحاء العالم في حملات ترمي إلى تحقيق العدالة الاجتماعية.
مارتن لوثر كينغ
ووفقا للرائد الأميركي في سياسة اللاعنف مارتن لوثر كينغ والذي حول حياته كليا وفق هذا المبدأ، ووفقا لكتابه Stride Toward Freedom، فإن المسالمة الحقيقية True pacifism "أو المقاومة اللاعنفية" nonviolent resistance هي "مواجهة شجاعة للشر بقوة الحب"، وكان كينغ ملتزمًا "أخلاقيًا وعمليًا" باللاعنف، وكان يعتقد أن "عقيدة الحب المسيحية التي تعمل من خلال أسلوب غاندي في اللاعنف كانت واحدة من أقوى الأسلحة المتاحة للأشخاص المضطهدين في نضالهم من أجل الحرية.
كان لمفهوم كينغ عن اللاعنف ستة مبادئ رئيسية. أولاً، يمكن للمرء أن يقاوم الشر دون اللجوء إلى العنف. ثانيًا، يسعى اللاعنف إلى كسب "صداقة وتفهم" الخصم، وليس إذلاله ثالثًا، يجب مقاومة الشر نفسه، وليس من يرتكبون الأفعال الشريرة. رابعًا، يجب أن يكون أولئك الملتزمون باللاعنف مستعدين للمعاناة دون انتقام، لأن المعاناة نفسها يمكن أن تكون تعويضية. خامسًا، تتجنب المقاومة اللاعنفية "العنف الجسدي الخارجي" و"العنف الداخلي للروح" أيضًا: "لا يرفض المقاوم اللاعنفي إطلاق النار على خصمه فحسب، بل يرفض أيضًا كرهه"، إذ يجب أن يكون الدافع وراء المقاومة هو المحبة بمعنى الكلمة اليونانية agape، والتي تعني "الفهم" أو "افتداء حسن النية لجميع الناس"، أما المبدأ السادس هو أن المقاومة اللاعنفية يجب أن يكون لها "إيمان عميق بالمستقبل"، نابعًا من الاقتناع بأن "الكون إلى جانب العدالة".
ما أحوجنا في لبنان إلى تكريس مبدأ ومفهوم "اللاعنف"، وسط تحديات حياتية ومجتمعية واقتصادية وبيئية متفاقمة، وصولا إلى مبادئ شفافة في المواطنة والإنسانية والسلام، تتمثل بأخلاق مثل التسامح والمحبة وتقبل الآخر وغيرها، وهو ما نفتقده في بلادنا.