في طريق وعرة وصعبة للغاية، سار فريق "امشي وتعرف على بلدك" بحذر شديد نحو وادي القلط للتمتع بالمشاهد الخلابة وفي رحلة عبر التاريخ ورغبة باستكشاف أسرار الطبيعة والتنوع البيئي في فلسطين .
وككل يوم جمعة تقريبا، حيث يتابع الفريق مساراته عبر مناطق وأودية وجبال فلسطين، بدأ الفريق مساره صباح يوم الجمعة الموافق التاسع عشر من تشرين الثاني (نوفمبر) 2021 عبر طريق ما يعرف بـ "الصواريخ"، حيث سلك فريق المشَّاءون والذي ضم اربعون مشَّاءا طريقا ملتويا بدأ من محمية "عيْـــــنُ الفـَوّار" نحو الوادي للسير في جداول المياه الطبيعية .
وفي بطن الوادي السحيق والسفوح المجاورة، شاهدنا الكثير من المغاور والكهوف والمناظر الخلابة التي تبهر الأبصار، وعلى طول الطريق شاهدنا القنوات القديمة والتي بنيت في العصر الروماني، والتي عبرها كانت تنقل المياه الى قصر هيرودوس الشتوي، أو فيما يعرف بـ "تلول أبو العلايق" وقد تم ترميم هذه القنوات إبان العصر العثماني.
ومشينا مع تيار المياه الهادر الذي كان يشتد حينا، ويقل في مناطق اخرى، واستمتع المشاؤون ، من فريق "أمشي وتعرف على بلدك"، بالمغامرة الجميلة في اختراق عيون المياه القوية تارة يمينا، وتارة يسارا، والسباحة مع الشلالات الهادرة الخلابة، وتسلق الصخور احيانا، والتي يتدفق منها ماء غزير عذب صاف يتلوّى في سواقي متعرّجة متفرّقة تارة كالشلال، والتي صقلت حجارتها المياه الجارية على مدار آلاف السنين، وكانت تعلو اصوات المتجولين سعادة وهم يستمتعون بمياه النهر الهادر العذبة والمناظر الخلابة التي تسلب الألباب .
وتقع ﻳﻨﺎﺑﻴﻊ ﺍﻟﻤﺤﻤﻴﺔ الطبيعية "عَيْـــــنُ الفـَوّار" على مسافة 10 كم ﺷﻤﺎﻝ مدينة القدس، وهذه المحمية فريدة ﻣﻦ نوعها ﻓﻲ فلسطين، ﻭﺗﺘﻤﻴﺰ ﺑﻐﺰﺍﺭﺓ ﻣﻴﺎﻫﻬﺎ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺨﺮﺝ ﻣﻦ الصخور، ﻭﺗﺠﺮﻱ ﻣُﺸﻜﻠﺔ ﺍﻟﻌﺸﺮﺍﺕ ﻣﻦ ﺍﻟﺸﻼﻻﺕ ﻭﺍﻟﺒﺮﻙ ﺍﻟﺘﻲ ﺣﻔﺮﻫﺎ ﺟﺮﻳﺎﻥ ﺍﻟﻤﻴﺎﻩ ﻃﻮﺍﻝ ﺍﻻﻑ ﺍﻟﺴﻨﻴﻦ ﻓﻲ الصخور، ﻭﺗﺸﻖ ﺍﻟﻤﻴﺎﻩ ﻃﺮﻳﻘﻬﺎ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﺠﺒﺎﻝ الجرداء الشاهقة، ﻓﻲ بيداء ﺍﻟﺒﺤﺮ الميت، ﻟﺘﻠﺘﻘﻲ ﻣﻊ ﻋﻴﻦ ﺃﺧﺮﻯ يطلق ﻋﻠﻴﻬﺎ اسم " عَيْـــــنُ ﻓـــﺎﺭﻩ " ﻓﻌﻴﻦ ﺛﺎﻟﺜﺔ ﻫﻲ "ﻋﻴﻦ القِلــط" ، مكونة ﻣﺎ ﻳﻌﺮﻑ ﺑﺎسم "ﻭﺍﺩﻱ القِلــط ".
وتعيش ﺃنواﻉ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻣﻦ ﺍﻷﺳﻤﺎﻙ في هذه العيون، وخصوصاسمك " الخفاف" من فصيلة السلمونيات، وهو من اسماك المياه العذبة، ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ ﺇﻟﻰ ﻛﺎﺋﻨﺎﺕ ﻣﺎﺋﻴﺔ ﺃﺧﺮﻯ مثل السرطعون والضفادع .
ﻭﺗﻌﺘﺒﺮ ﺍﻟﻤﺤﻤﻴﺔ، ﻭالتي ﺗﺨﻀﻊ لسلطات الإحتلال ﻓﻲ ﺍﻟﻀﻔﺔ ﺍﻟﻐﺮﺑﻴﺔ، ﻣﻜﺎﻧﺎ ﻣﺜﺎﻟﻴﺎ ﻟﺘﻜﺎﺛﺮ ﺃنواﻉ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻣﻦ ﺍلطيورﺍﻟﻤﻘﻴﻤﺔ ﻭﺍﻟﻤﻬﺎﺟﺮﺓ، ولا شك ان مراقبة الطيور الجارحة المحلقة في سماء الوادي الصافية معلنة وجود فرائس دسمة بين شقوق الصخور من المشاهدات الأروع، كما شاهدنا الطيور البرية منها سمنة الصخور الزرقاء، والصرد المقنع، وصائد السمك، والشرقرق والوروار الأوروبي وغيرها من الطيور المقيمة والمهاجرة، ﻭﺗﻌيش بعض ﺍﻟﺤﻴﻮﺍﻧﺎﺕ بكثرة ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺤﻤﻴﺔ ﻣﺜﻞ الوبر ﺍﻟﺼﺨﺮﻱ وغزال الجبل الفلسطيني، والشيهم، والتي تستفيد ﻣﻦ الأجواء الدافئة شتاؤ والرطبة ﺻﻴﻔﺎ، وتنتشر في ارضه الزهور البرية مثل الكبار وغار الوديان والملوح، ونبات النعنع البري، وشجر الدوم او السدر وافر الظلال والبوص والرتم والحلفا .
وبعد عدة ساعات من المشي بنحو ثلاثة عشر كيلومترا على مقربة من مياه "عَيْـــــنُ الفـَوّار"، وعلى أطراف الجبال متسلقين بارتفاع قارب 300 مترا، كما سار الفريق في الوادي، كما تم اجتياز بعض المقاطع بمساعدة مقابض حديدية مثبته بالصخر .
ﻭﺗﻨﺘﺸﺮ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺤﻤﻴﺔ ﺃﺩﻳﺮﺓ ﺗﻌﻮﺩ ﻟﻠﻌﻬﺪ البيزنطي، ﺍﺧﺘﺎﺭ ﺭﻫﺒﺎﻥ تلك ﺍﻟﻔﺘﺮﺓ موﻗﻌﻬﺎ ﻭسط الصحراء، ﻛﻤﻜﺎﻥ ﻣﺜﺎﻟﻲ ﻟﻠﺘﺄﻣﻞ ﻭعيش ﺣﻴﺎﺓ ﺍﻟﺮﻫﺒﻨﺔ فيما تبدو بيوت قديمة حفرها الرهبان في الصخور ﻭﻣﺎ زالت ﺁﺛﺎﺭ عشرات هذه ﺍﻷﻣﻜﻨﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺸﺒﻪ ﺍﻟﻜهوف بادية للعيان ﻓﻲ ﺃﻋﺎﻟﻲ ﺍﻟﺠﺒﺎﻝ، وﻋﻠﻰ امتداد الوادي الذي تصب ﻣﻴﺎﻫﻪ ﻓﻲ ﺍﻟﺒﺤﺮ الميت.
وفي نهاية المسار، وفي بطن الجبال، بان لنا دير القلط أو دير القديس "جوارجيوس خوجافا" وهو من المعالم التاريخية و الأثرية، الذي يتموضع في قلب الصخر، ويقف بشموخ بشكل هندسي جميل في قلب الوادي، ومنطقة الدير والدائرة التي حولها، هي مناطق صحراوية مليئة بالمغاور والكهوف تعود إلى القرون الأولى للمسيحية، والتي وصل عدد النساك فيها حوالي خمسة آلاف، وذلك في فترة بناء الدير في القرن الخامس الميلادي، لكن تم تدمير الدير في العام 614 م على يد الفرس، أثناء غزواتهم إلى البلاد، وقاموا بذبح معظم النساك في المنطقة بصورة وحشية لا نظير لها، وما زالت جماجمهم محفوظة داخل الدير حتى يومنا هذا، وفي سنة 1878م، أعيد ترميم الدير ثانية ، وتم الإنتهاء من ترميمه، وبمساعدة من بطريركية الروم الأرثوذكس بالقدس سنة 1901م.
