الماء سر الحياة ومن أهم أسباب قيام الحضارات وسراستمرارها وصدق تعالى في محكم آياته "وجعلنا من الماء كل شيء حي"، فلا يمكن تصور الحياة بدون هذا العنصر الهام، فأينما تجد حضارة إنسانية تجد مصادر للمياه، وحتى يومنا هذا، والمسار كان مميزا إلى قرية "تــِل" في فلسطين التي تجمع تحت سمائها 13 نبعا وعينا مختلفة من الماء الزلال.
بدأ مسار فريق " أمشي وتعرف على بلدك" مساره البيئي المعتاد، كل يوم جمعة وصادف يوم أمس الجمعة الأول من تشرين الأول (أكتوبر) الى جبال ووديان قرية "تــِل"، حيث انطلق الفريق الذي ضم 65 مشاءا من منطقة عين المزراب، والتي تقع شمال القرية في سفوح جبال " تــِل"، وشاهدنا بداية حوضا مبنيا من الحجارة على عين، ويقال أنه كان يخرج ماءها من مزاريب عدة، حيث يشرب الناس منها ويغتسلون أو يملؤون منها آنيتهم، لذا سميت عين المزراب وكان يجري ماؤها في قنوات بمحاذاة الوادي، لتسيل الى المزارع والبساتين التي تزرع بشتى الاصناف من الرمان والتين .
واستكمل الفريق سيره صعودا نحو "جبل العمدان" والتي تشبه صخوره الأعمدة، وتشهد هذه المنطقة الطبيعية الجميلة حركة عقارية وعمرانية ملحوظة نظراً لوقوعها ضمن امتداد نابلس الجديدة ووقوعها على الطريق الواصل الى قرية " تـل".
واستمتع المشاءون خلال مرورهم بنبع "الفوار" بتناول توت العليق البري والرمان والعنب وبعض حبات من التين لا زالت تحتفظ بمذاقها الرائع، رغم أن موسم التين قد انتهى في " تــِل" وعلى قول المثل الشعبي " ان صلبت خربت".
وكان فريق المشائين قد سار مسافة عشرة كيلومترات بمحاذاة عين "سور" والمربعة، ونبع بئر الغزال، ومنطقة الدواجن قرب مدرسة روحي الهندي بمرافقة الدليل المحلي جهاد الهندي، مرورا بمنطقة اللحف، ومنطقة الكبالة، منطقة الشونه التي تضم بقايا أطلال بيوت قديمة، وبين حقول الزيتون والذي اعلن عن بدء قطافه في أواسط هذا الشهر تشرين الأول (الأول)، وقد اعترضتنا خلال المسار دورية احتلالية، وطلب منا الجنود عدم السير باتجاه البرج العسكري المقام على أراضي قرية "تــِل" وعلمنا أن هناك في هذه المنطقة حفرة عميقة جدا تدعى "خسفة مادما".
"نبع الفوار" و"عين سور" تتبعان لعراق بورين القرية الشامخة والتي سيكون لنا مقال عن عراقتها وشموخها .
يقول محدثي "أن الناس في الماضي كان يوردون أغنامهم وأبقارهم ودوابهم على هذه القنوات لتشرب منها، وكانت عُيُـــــونُ الماء في (تــِل) من الأماكن الجميلة التي يلتقي عندها الناس من مختلف العائلات والحارات، ليتحادثوا ويتآلفوا ويرتاحوا من عناء العمل في الأراضي والبساتين، كما كانت تحضر النساء الى العُيُـــــونُ في أوقات معينة على شكل مجموعات، يحملن فوق رؤوسهن جرار الماء لتعبئتها ونقلها الى البيوت".
كما تغنى بعُيُـــــونُ مائها العذبة الشعراء :
يا خليلي عرجا صوب تل......
تينها الشهد لا يزال ببالي ....
واسقيني من طيب فوارها ....
او عمدني من ماء بئر الغزالي...
ومياه الينابيع في "تــِل" عبارة عن مياه جوفية، توفرت لها ظروف جيولوجية معينة فخرجت الى السطح، حيث اكتسبت مياه الينابيع خواصها المعدنية والفيزيائية من الصخور التي تمر فيها أثناء ترشحها داخل الأرض وخروجها منها .
ولا يستغرب أن تستغل مياه هذه الينابيع في مختلف العصور، وتبنى حولها التجمعات السكانية، فمياهها دافئة في الشتاء وباردة في الصيف، تردها الحيوانات بهدف الشرب، وخصوصا ان " تــِل" تمتاز بطبيعتها الرائعة وجبالها الجميلة ومنها "جبل العمدان"، وما تحويه من ينابيع مياه طبيعية مما جعلها مأوى للغزلان والأفاعي والأرانب البرية اضافة الى العقبان والحجل والعديد من الطيور والحيوانات البرية .
من عجائب قرية "تــِل" أنّ من يسكنها، لا يتوقف عن اكتشاف أماكن جديدة فيها كلّ يوم، حيث تحتوي العديد من المعالم والخرب الأثرية القديمة "خربة أوفار"، "خربة السورتين" في الشمال، خربة كفرون في الغرب " وبالفعل وجدنا العديد من قطع الفخار المتناثرة التي استخدمت في عصور مختلفة، منها آثار لحقب غابرة شهيرة لا نتوقف عن زيارتها، ومنها ما يكون مرئياً وواضحاً للعيان، ومنها ما قد نمرّ بجواره مئات المرّات، دون أن نلقي بالاً له ولأهميته.
بذلك، ليس من العجيب أن يحدثنا "مجدي عارف رمضان" أحد سكّان قرية "تــِل" والذي رافق المسار من منطقة الدواجن، وجود مقام أثريّ يقع في واحدة من أعلى نقاط جبلها الشهير، جبل الـ "تــِل"، وترتبط به العديد من الروايات التاريخية، وهو "مقام الأربعين" في منطقة " التــِل "، كثر لا يعرفون بوجوده، وقلائل هم من تحمّلوا مشقة الصعود إليه، وزيارته والجلوس تحت فىء شجرتي بلوط عملاقتين، وملامسة الروايات المنسوجة حوله عن قرب، وفي الوقت ذاته التمتع بإطلالة علوية على القرية النائمة في حضن جبلها وعلى سفوحه المترامية الأطراف.
ولهذه التسمية أسباب عديدة كذلك، منها وجود أربعين ولياً صالحا اجتمعوا بهدف التعبد والصلاة، وهم من يحرسون "تل" والخرب الأثرية المحيطة فيها، والتي يتحدث سكانها على الدوام بأنها "محمية بأربعين ولي من كلّ سوء".
ويصبح تاريخ وماضي قرية " تــِل" حيا عند اعتبار هذه الينابيع التي تمثل مصدرا للحياة، ودارت حولها الصراعات، وقد انتصرت أمم وهزمت أخرى، ونهضت حضارات وانقرضت اخرى، والينابيع ما زالت تنبض معطاءه تدفع مياهها لتبني وتؤسس من جديد لتبقى " تــِل" مدينة الصمود والشهداء .
واخيرا همسة في أذن صناع القرار: "تحتاج عُيُـــــونُ الماء في "تــِل" الى الكثير من الصيانة، لما تعانيه من مشكلات تتعلق بإعادة ترميم الأقنية وضرورة إيجاد احواض لحفظها من التلوث والضياع والهدر الناتج عن التبخر".
" تــِل" هي قطعة من هذا الفسيفساء الفلسطيني الجميل المرسوم على مساحات الوطن من شرقه الى غربه ومن شماله الى جنوبه، ندعو الله ان يحفظ عليه كله نعمه وبركاته ويديم عزه وخيراته.